(1.3) أقرأُ
اللغةُ الأُمُّ
بعضُ النّاس يتكلّمون ، لا لأنَّ أفكارًا مهمّةً تتزاحمُ في رؤوسهم ، بل لأنّ طرَفَ لسانِهم يحكُّهم ، وبعضُ النّاسِ يكتبون الشّعرَ لا لأنّ عواطفَ كبيرةً تتزاحم في صدورِهم ، بل لأنّ...، حتّى أنّه يصعبُ على المرءِ أنْ يقولَ لماذا يُقرّرون فجأةً كتابةَ الشِّعرِ . هؤلاءِ النّاسُ لا يريدونَ أنْ يلتفتوا ويرَوْا ما يجري في العالمِ ، ولا يريدونَ أنْ يُنصِتوا ويعرفوا الإيقاعاتِ التي يفيضُ بها العالمُ ، ونتساءلُ لماذا أُعطيَ الإنسانُ عينين وأذنين ولسانًا واحدًا ؟ القضيّةُ هي أنَّه قبلَ أن يُخرِجَ اللّسانُ الكلمةَ يجبُ على العينينَ أن تريَا والأذنينِ أن تسمعا .
الفكرة الرئيسة :
تقدير النّاسَ الذين يتأملون ما يجري في العالم حولهم، ويفكّرونَ قبلَ أنْ يتكلّموا .
الكلمةُ المنطلقةُ من اللسانِ كجوادِ من دربٍ ضيِّقٍ وَعِرٍ إلى فضاءٍ فسيح ، وأتساءلُ : هل يمكنُ أن نُطلقَ في العالمِ كلمةً لم تكنْ قد عاشتْ في القلب ؟
وإذا كان هذا الكتابُ يشبِهُ سجادةً ، فأنا أحيكُها من خيوطِ اللّغة الأفاريّةِ المتعدّدةِ الألوان. لِيقُلِ الآخرونَ إنّ لغةَ شعبنا فقيرةٌ ، أمّا أنا فأستطيع أن أقولَ بلغتي كلَّ ما أريدُه ، ولستُ في حاجةٍ إلى لغةٍ أخرى كي أُعبِّرَ عن أفكاري ومشاعري .
الفكرة الرئيسة :
اللغة الأفاريّة لغة شعبيّة غنيّة ، تكفي للتعبير عن أفكار الشّاعر ومشاعره .
أضيفُ إلى مُعْجَمي :
جواد : النّجيبُ من الخيل ، السّريعُ الجريِ .
جمعُها : جِياد
في داغستان شعبٌ صغيرٌ هم اللاكيّون ، ويتكلّمُ اللاكيّةَ ما يربو على خمسينَ ألفَ شخصٍ . وقدْ أوصتْ أُمٌّ لاكيّةٌ ابنها وهي تودِّعُه إلى بلادٍ نائيةٍ فقالتْ : " حينَ تأكلُ عصيدةً في صحنِ مطاعمِ المدينةِ ، انظرْ، فقدْ يكونُ ابنُ بلدِنا تحتَ العصيدة " .
لغاتُ الشّعوبِ بالنّسبةِ إليّ كالنّجومِ ، أنا لا أودُّ أنْ تذوبَ النّجومُ كلُّها في نجمٍ واحدٍ ضخمٍ يغطّي السّماءَ ، لكنْ لندعِ النّجومَ تتلألأُ هي الأخرى ، ولتكنْ لكلِّ إنسانٍ نجمةٌ ، أنا أحبُّ نَجْمي – لغتي الأفاريّةَ الأُمّ . لكلِّ قريةٍ لعَنَاتُها ، وفي إحدى اللّعناتِ ترى نفسَكَ مُوثَقَ اليدينِ والرِّجْلينِ بوِثاقٍ غيرِ منظورٍ ، واللّعنةُ الموجَّهةُ إلى العينينِ تُعدُّ من أرهبِ اللعناتِ ، ولكنْ ، يوجدُ ما هو أرهبُ منها ، فقد سمعْتُ أنَّ في إحدى القرى امرأتين تتبادلانِ الشتائمَ :
- لِيحرمِ الله أطفالَكِ من يستطيعُ أن يُعلِّمَهم اللّغةَ .
- بلْ لِيحرمِ اللهُ أطفالَكِ من يستطيعونَ أنْ يُعلِّمَوه اللّغةَ .
إلى هذا الحدِّ تكونُ اللّعناتُ مرعبةً ، وفي الجبالِ وبدونِ لعناتٍ يفقدُ الإنسانُ الذي لا يحترمُ لغتَه الأمَّ احترامَه ، فالأمُّ الجبليّةُ لن تقرأَ أشعارَ ابنِها إذا كانتْ مكتوبةً بلغةٍ أخرى .
الفكرة الرئيسة :
احترام لُغاتِ الشُّعوبِ وتقدّيرها ، ولِيحترمْ كلُّ إنسانٍ لغتَه .
أضيفُ إلى مُعْجَمي :
اللاكيّونَ : مجموعةٌ عرقيّةٌ صغيرةٌ .
اللاكيّة : إحدى اللّغاتِ الرسميّةِ في جمهوريةِ داغستان .
العصيدةُ : طبقٌ عربيٌّ منَ الدّقيقِ المخلوطِ بالماءِ في المناسباتِ الاجتماعيّةِ
اللّغةُ الأفاريّةُ : لغةٌ قوقازيّةٌ يتحدّثُ بها أهلُ منطقةِ داغستان.
ومنْ دفترِ الذِّكرياتِ ، التقيتُ في باريسَ ذات مرّةٍ رسّامًا داغستانيًّا طال غيابُه عن وطنِه ، سألتُه : لماذا لا تريدُ أن تعودَ لوطِنكَ ؟ قال : الوقتُ أصبحَ متأخّرًا ، لقدْ حَمَلتُ آنذاكَ من أرضِ وطني قلبيَ الشابَّ المتوقّدَ ، فكيفَ أُعيدُ إليها الآنَ عظاميَ الباليةَ ؟ وحينَ عدْتُ من باريسَ التقيتُ أمَّهُ العجوزَ ، وقد استمعَتْ إلى حديثي عن ابنِها الذي عاشَ في أرضٍ غريبةٍ ، فكان أقرباؤهُ مسرورينَ لأنَّ ابنَهم حيٌّ ، إلّا أنَّ أمَّهُ فجأةً سألتْني : هل تحدّثْتُما اللغة الأفاريّةِ ؟ أجبْتُها بأنّنا تحدّثْنا بوَساطةِ مترجم ، أنا أتكلّم الروسيّة وابنُكَ بالفرنسيّة . غطّتِ الأمُّ وجهها بِطرحةٍ سوداءَ كما تفعلُ النِّساءُ حينَ يسمعْنَ بموتِ أبنائهنَّ وقالتْ : أنتَ مخطئٌ يا رسولُ ، لقد ماتَ ابْني منذُ زمنٍ بعيدٍ ، هذا لم يكنِ ابني ، فابني لم يكنْ لِيستطيعَ أنْ ينسى لغتَه التي علَّمْتُه إيّاها.
هؤلاء النّاسُ كثرٌ ، تركوا لغتَهم وراحوا يبحثون عن لغةٍ أخرى ، فكان أمرُهم كالجَدْيِ في الأُسطورة " ذهبَ الجَدْيُ إلى الغابةِ لينموَ له ذنَبُ ذئبٍ ، فعادَ حتّى بلا قرنينَ" .
الفكرة الرئيسة:
الأشخاص الذين تركوا لُغاتِهم إلى لُغاتٍ أُخرى خسروا كثيرًا .
أضيفُ إلى مُعْجَمي:
طرحة : غطاءٌ تلبسه المرأةُ يغطِّي رأسَها وكتفيها.
جمعها : طَرَحات / و طَرْحَات / و طِرَاح / طُرَح.
الأُسطورةُ :حكايةٌ خُرافيّةٌ تروي أحداثًا تتخيّلُها الذاكرةُ الشّعبيّةُ.
جمعُها : أساطير.
وها أنا أقدِّمُ لكم نفسيَ بلغتي التي تنمو كالشّجرةِ :
كلُّ شيءٍ في الحلُمِ غريبٌ دائمًا وغيرُ معقولٍ :
واليومَ في نومي تراءى ليَ الموتُ
في يومٍ قائظٍ في وادي داغستانَ
كنتُ أرقدُ على الأرضِ بلا حراكٍ كأنَّ رصاصًا على
صدري
أحتضِرُ لكنَّ أحدًا لن يعرفَ
ولن يحضرَ إليَّ
لا أمَّ ، لا صديقَ ، لا حبيبَ
حتّى ولا نادبةً هناك
تبكي على قبري
أنا مَنْ ماتَ في شَرْخِ الشّبابِ
هكذا كنتُ أرقدُ وأحتضرُ عاجزًا
وفجأةً سمعتُ على مقرُبةٍ مِنّي
رَجلينِ يسيرانِ ويتكلّمانِ
بلغتي الأفاريّة الأمِّ
أُسمعْتُ وَقْعَ لغتي الأمِّ غائمًا
فانتعشْتُ وأدركْتُ وقتَها أنَّ من يشفيني ليسَ الطّبيبُ
ولا الحكيمُ ، بل لغتي الأمُّ
قد تشفي بعضَهم لغةٌ أخرى
لكنّي لا أستطيعُ أنْ أُغنّيَ بها
وإذا كانت لغتي ستضمحلُّ غدًا
فأنا مستعدٌّ أنْ أموتَ اليومَ
الفكرة الرئيسة :
اللغة سبب الشّفاء من كلِّ داءٍ ، يحيا بها الكاتب ويغنّي بسعادةٍ .
أضيفُ إلى مُعْجَمي :
أحتضِرُ : أتاه الموتُ .
نادبة : امرأة تبكي الميّت وتذكر خصاله .
شرخُ الشّبابِ : ريعانُهُ وفتوَّتُهُ .
غائمٌ : عطِشٌ .
ستضمحلُّ : تتلاشى .
**********************************************************************
أتعرَّفُ كاتبَ النّصِّ
1- مَن كاتب النّصّ ؟
رسول حمزاتوف .وهو نجل الشّاعر المعروف حمزة تساداسا.
2- متى وُلدَ ؟ وأين ؟
1923 ، في قرية تسادا الدّاغستانيّة .
3- لماذا سمّاه والده بهذا الاسم ؟
تيمُّنًا بالنبيِّ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم .
4-متى بدأ رسول الكتابة ؟
في سنٍّ مبكّرةٍ .
5- ماذا عملَ بعد التخرّج ؟
- معلّمًا في دار المعلمين . - ممثّلًا في المسرح الوطنيِّ
- محرّرًا في الصّحافةِ المحليّة .
6- ما اسم المعهد الذي تخرّج منه ؟ وماذا أكسبه ؟
معهد غوركي للآداب في موسكو في عام ( 1950 ) .
تعرّف فيه الشّعر العالميَّ ومدارسَه وأساليبه ، ممّا أكسبَه خبرةً أغنتْ تجارُبْهُ من غير أن تفقدَ تلك التّجربة ارتباطها ببلدهِ داغستان .
7- ما القدرة التي امتلكها رسول حمزا توف ؟
امتلك قدرة تحليليّة وإدراكًا عميقًا للعالم وما يجري فيه من أحداث . وكان في وعي جمهوره شاعرًا مرحًا مُحبًّا للحياة.
8- بِمَ لُقِّب رسول حمزا توف ؟
شاعر الشّعب في داغستان .
9- كم عدد مؤلفاته ؟
صدرت مؤلَّفاته كاملة في (18 ) مجلدًا :
ضمّتْ (40) مؤلفًا بلغته الأمّ الأفاريّة ، و ( 8 ) مجلّدات باللّغة الرّوسيّة .
10- اذكري أسماء دواوينه .
" شعلة الحبّ ولهيب الكراهية " و " أيّتُها الأرض يا أرضي" و
" صونوا أمهاتكم "
11- ما اسم القصيدة الشّعريّة التي نظمها حمزا توف ومنها أُخذ النّصّ ؟
داغستان بلدي .
************************************************************************
أتعرَّفُ جَوَّ النَّصِّ
اللُّغة الأُمُّ هي اللّغةُ الأولى الّتي يمتلكُها الفردُ ، وهي الأداةُ الأقوى التي تحفظُ تطوّرَ تراثِ البلدِ وثقافتَهُ وتاريخَه ، واللّغةُ هي الوعاءُ الذي ينقلُ ميراثَ الشّعوبِ ، وهي مظهرٌ من مظاهرِ التّاريخِ ، والتّاريخُ صفةُ الأمّةِ وهُوِيَّتُها.
وتُعدُّ اللغةُ الأفاريّةُ بالنّسبةِ إلى رسول حمزاتوف رمزًا للأرضِ والتّاريخِ ، ولحكاياتِ الأجدادِ وأغنياتِ الطُّفولةِ . وكان يكتبُ شعرَهُ بالأفاريّةِ وأشادَ بِها وعدَّها أمَّه . وقد عُرفَ عن المرأةِ الأفاريّةِ أنّها حارسةُ اللّغةِ ومعلّمتها الأولى ، فاللّغةُ الأمُّ عندها مسألةُ حياةٍ أو موتٍ .
===============================================