الحياة الاجتماعية في الأردنّ في العهد العثماني
المجتمع الأردني في العهد العثماني
تكوّن المجتمع الأردني من ثلاث فئات اجتماعية، وهي:
- الفلاحون
شكّل الفلّاحون الغالبية العظمى من سكّان الأردنّ في العهد العثماني وما بعده، وانتشرت القرى في أنحاء الأردنّ كافّة؛ إذ تُمثّل القرية الأردنية كغيرها من قرى بلاد الشام العمود الفقري للمنطقة، فقد بُنيت في الأغلب على قمّة مرتفعة لتوفير نوع من الحماية الطبيعية، أو بالقرب من عيون الماء بوصفها مصدرًا أساسيًّا للشرب.
كانت بيوت القرية مكتظة ومتقاربة، ويفصل بينها جدران عالية للحماية، وتتشارك الدور المجاورة للبيت في أجزاء منه، ويوجد بهذه الجدران البوّابة الرئيسة المؤدّية إلى فناء البيت. وفي فترات لاحقة قُسّمت القرية إلى أحياء حسب العائلات التي تقطنها؛ بسبب ازدياد عدد السكان وكثرة البيوت.
كانت معظم بيوت القرية تتكوّن من طابق واحد وبعضها يتكوّن من طابقين، ويتكوّن البيت من أواوين (الإيوان قاعة أو مِساحة محاطة بثلاثة جدران) معقودة بالعقود المتقاطعة، وكانت الموادّ المستخدمة في البناء الطين والحجر والشيد والقشّ، وكانت غالبية سقوف البيوت في القرية تتكوّن من طبقة من الطين والقشّ، توضع فوق طبقة من القصب الطويل (القُصّيب) تستند على جسور خشبية من جذوع الأشجار الكبيرة والطويلة أو الجسور الحديدية لاحقًا.
كانت معظم بيوت القرية مؤلّفة من غرف للسكن وغرف أخرى ملحقة بها مخصّصة لإيواء الحيوانات التي تملكها الأسرة وتخزين الحبوب والمحاصيل، وتكوّنت بعض البيوت الأخرى من الداخل من قسمين: القسم الأوّل يُسمّى قاع البيت، وكان مخصّصًا للحيوانات التي يُربّونها مثل الأبقار والأغنام، أمّا القسم الثاني فيُسمّى المصطبة، وهو المكان المخصّص لنوم الأسرة والطعام، ويوجد في وسط المصطبة (النقرة)، وهي مكان مخصّص لإشعال النار والطبخ والتدفئة أيام الشتاء.
كانت الغرفة الواحدة تحتوي على (كواير) وهي خزّانات للطحين مبنية من الطين في أحد جدرانها، أمّا بقيّة الغرفة فتحتوي على (المطوى) وهو تجويف في الجدار مخصّص لحفظ فراش البيت المخصّص للنوم، كما يوجد فيها كوّة للمصباح لإنارة البيت.
كان الأهالي يعملون على صيانة بيوتهم كلّ سنة، لتلافي ما يتعرّض له البيت من أضرار جرّاء العوامل الجوّية كالأمطار والعواصف، ومن الداخل بسبب الدخان المنبعث من النار؛ إذ يعيدون طلاءه بالشيد أو الكلس الأبيض، ومن الخارج يُطيّنونه بالتراب الصلصالي والتبن لسد نقاط الضعف فيه؛ كي لا يدلف منه ماء المطر إلى داخل البيت. وكانت ترافق أعمال الصيانة أو بناء البيت عادة أردنية إيجابية ما زالت تُمارس إلى الآن وهي العونة أو الفزعة؛ إذ يتعاون رجال القرية ونساؤها في ما بينهم لمساعدة أهل البيت في البناء، وفي مواسم الحصاد كذلك، ترافقها الأغاني والأهازيج الشعبية.
وقد استخدم الفلّاحون الفرن أو التنور (الطابون) في صنع الخبز، وكان يوجد في كلّ بيت طابون خاصّ به، أمّا مواردهم المائية فكانت من الينابيع، وإذا لم تتوافر تُحفر الصهاريج (الآبار) وتُشيّد لتجميع مياه الأمطار، وكان لكلّ بيت صهريج غالبًا، وكانت المياه تُنقل المياه إلى البيوت بوساطة الجِرار أو القِرَب والروايا المصنوعة من جلود الحيوانات. وكان الكثير من القرى تحتوي على مغاور وكهوف إمّا في داخل القرية أو خارجها، تُستخدم لإيواء الحيوانات وخزن الحبوب وفي حالات أخرى للسكن.
يتخلّل القرية شبكة من الممرّات الضيّقة المتعرّجة، أقيمت فيها منشآت ذات نفع عامّ مثل المسجد (الجامع) أو الكنيسة في وسط القرية، والكُتّاب (المدرسة) الذي يتعلّم فيه أبناء القرية، وكان يُخصّص له مكان معيّن أو في مسجد القرية، ووُجِد في بعض القرى معاصر للزيتون وطواحين الماء لطحن الدقيق لسكّان القرية والقرى المحيطة.
نصّ قانون الولايات العثماني الصادر في عام (1864م)، على تقسيم الدولة العثمانية إلى ولايات، والولاية إلى ألوية، واللواء إلى أقضية، والقضاء إلى نواحٍ، والناحية إلى قرى. وفي كلّ قرية مجلس اختياري يترأسه المختار الذي من مهامّه حفظ النظام في القرية، والمسؤولية المباشرة أمام السلطة الحاكمة، وفضّ المنازعات والمشكلات بين أفراد القرية، وجمع الضرائب المترتّبة على فلّاحيها. يملك شيخ القرية أو مختارها عادة بيتًا كبيرًا كانت مهمّته استقبال الزوار الرسميّين القادمين إلى القرية؛ فيُرحّب بهم ويكرمهم في بيته أو في مكان مخصّص لهذه الغاية (المضافة).
وُجِد في كلّ قرية خطيب أو راهب (كاهن) لتعليم أهلها أمور دينهم، وتعليم أبنائهم القراءة والكتابة والحساب، وكان في كلّ قرية حارس يبلّغ إدارة الناحية بكلّ ما يجري في القرية من أحداث كالولادات والوفيات والإبلاغات.
شكّلت المرأة عنصرًا مهمًّا في مجتمع القرية، فبالإضافة إلى أعمال البيت وإعداد الطعام، كانت تساعد زوجها على أعماله الزراعية وصنع الألبان والأجبان وحياكة الملابس ونسج البسط وصناعة بيوت الشعر وغيرها، وكان في كل قرية داية (قابلة) أو أكثر، تُشرف على الحوامل من نساء القرية.
- الحضر
تشكّلت القصبات التي تُشبه في تصميمها القرى الكبيرة، وتضمّ رجال السلطة الحاكمة، بما في ذلك مقرّ الحكم والمحاكم والدرك والسجن والسوق وغيرها، ويعمل سكّانها بالتجارة والصناعة والحرف المحلّية التقليدية؛ كالدباغة والمنسوجات، وصناعة المحاريث وصيانتها، والأدوات والأواني التي يحتاج إليها السكّان في حياتهم اليومية، وكان يؤمّها سكّان القرى المحيطة بها لبيع منتوجاتهم من الألبان والأجبان والمحاصيل الزراعية والحيوانات الداجنة في أسواقها، ومن هذه القصبات: الكرك والسلط وعجلون وإربد.
- البدو
يُمكن تمييز نمطين من البداوة في الأردنّ في العهد العثماني، فيوجد البدو الرحّل وهم القبائل الرحّل التي تربّي الإبل، وهي في تنقّل مستمرّ على مدار السنة بحثًا عن الماء والكلأ، والبدو نصف الرحّل أو الزرّاعة، وهي القبائل البدوية شبه المستقرّة التي تُمارس الزراعة وتربية الأغنام ويتنقلون داخل ديرة محدّدة.
وتُعدّ القبيلة أساس التنظيم الاجتماعي في البادية الأردنية ويرأسها شيخ المشايخ، ثمّ العشيرة ويرأسها شيخ العشيرة، ثمّ الأفخاذ والعائلات. ويسكن البدو في بيوت مصنوعة من شعر الماعز، ويتّصف بيت الشعر بسهولة الاستعمال وفق الظروف القاسية لحياة التنقّل والترحال المستمرّة.
يتّخذ بيت الشعر الشكل المستطيل القائم على أعمدة، وهذه الأعمدة تُسمّى أسماءً مثل: الواسط (العمود الذي يقع في وسط بيت الشعر) والمقدَم (عمود الأمام الذي يكون أمام الواسط). ويُعرف بيت الشعر بعدّة أسماء نسبة إلى حجمه، وهي: الخربوش الذي يحتوي على تسعة أعمدة تُحيط به من الجهات جميعها، ويُصنع غالبًا من الخيش، والقُطبة الذي يقوم على واسط واحد، والمثنّى الذي يقوم على واسطين وهكذا، ويدلّ كِبر حجم بيت الشعر على المكانة الاجتماعية لصاحبه.
ثانياً: الحياة العلمية في الأردنّ في العهد العثماني
لقد كان التعليم في الأردنّ قبل القرن التاسع عشر منحصرًا في المدارس الدينية كالزوايا، وشبه الدينية كالكتاتيب التي يصرف عليها من الأوقاف والأهالي، وكان التركيز فيها منصبًّا على تعليم القرآن الكريم والحساب والقراءة والخطّ العربي، وفي فترة الحكم المصري لبلاد الشام طرأ تغيير على نظام التعليم؛ إذ شجّع إبراهيم باشا الإرساليات التبشيرية المسيحية الغربية لفتح المدارس، فقد أُنشئت مدارس عصرية كالمدرسة الجهادية في دمشق، وأُرسل الطلبة من بلاد الشام في بعثات إلى مصر للدراسة فيها.
وبعد انتهاء الحكم المصري لبلاد الشام، شعرت الدولة العثمانية بضرورة مواكبة التقدّم، فتأسست وزارة المعارف العمومية، وقُسّمت المدارس في الدولة العثمانية إلى مدارس عمومية ومدارس خصوصية، وجُعل التعليم العام إلزاميًّا ومجّانيًّا للأعوام الأربعة الأولى في المدارس الأوّلية (الابتدائية) في المدن والقرى، أمّا مدارس المرحلة الأعلى (الرشدية) فكانت مدّة الدراسة فيها أربعة أعوام وتكون في المدن الكبرى، وقُسّم التعليم الثانوي إلى مرحلتين: إعدادية وسُلطانية.
انتشر في الأردن في العهد العثماني ثلاثة أنماط تعليمية هي: التعليم الديني ممثّلًا بالكتاتيب، والتعليم الحكومي ممثّلًا بالمدارس الابتدائية والرشدية، ومدارس الإرساليات التبشيرية التي اعتمدت أنماط التعليم الغربية.
- الكتاتيب
يعني الكُتّاب مكان تعليم الصبيان، وهو ظاهرة تعليمية عرفها العرب قديمًا واستمرّت حتّى منتصف القرن العشرين، وكانت الكتاتيب عادة ملحقة بالمساجد، وتعتمد على طرائق التعليم التقليدية كالحفظ والتلقين والتكرار، ويتولى التدريس شيخ الكُتّاب مقابل هِبات عينية كالحبوب والخبز والبيض وغيرها، ويجري فيها تعليم القراءة والخطّ والحساب والقرآن الكريم. وقد انتشرت الكتاتيب في أنحاء الأردنّ في العهد العثماني.
- المدارس الحكومية
وُجدت المدارس الابتدائية والرشدية في كلّ من قصبات معان والطفيلة والكرك والسلط وعمّان وجرش وعجلون وإربد.
- المدارس التبشيرية
هي مدارس الطوائف غير المسلمة وتعود ملكيّتها إلى هذه الطوائف، وكان من شروط تأسيسها الحصول على موافقة الحكومة العثمانية وخضوع مناهجها للمراقبة، وقد أدخلت هذه المدارس تعليم اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى البلاد.
الحياة الاقتصادية في الأردنّ في العهد العثماني
أوّلًا: الزراعة
تُعدّ الزراعة عصب الحياة الاقتصادية للسكّان في العهد العثماني، فقد عرفوا نوعين من الزراعة، هما: الزراعة البعلية وهي الشائعة والتي تعتمد على مياه الأمطار، والزراعة المرويّة وهي تُشكّل نسبة بسيطة من مِساحة الأراضي الزراعية وتعتمد على مياه الأنهار والينابيع وفي الأودية، وقد شهدت الزراعة في العهد العثماني وبخاصّة في القرن التاسع عشر تراجعًا ملحوظًا بسبب القحط والجفاف والجراد، وكثرة الضرائب وانعدام الأمن، وتعدّي القبائل البدوية على القرى الزراعية، واستخدام الأساليب الزراعية التقليدية؛ ما أدّى إلى أن يعيش الفلاح حياة الفقر والضنك فيلجأ إلى الاستدانة من المرابين مقابل رهن ممتلكاته
ثانيًا: الصناعة
كانت الصناعة في الأردنّ في العهد العثماني بدائية تُلبّي حاجات السكان الأساسية، ومن أبرز هذه الصناعات: الصناعات الجلدية، مثل صناعة الأحذية، وأدوات الشرب كالقربة الجلدية، وأدوات الحليب واللبن كالعلبة الخشبية والشكوة الجلدية، والظبية لحفظ القهوة، والصناعات الغذائية كعصر الزيتون وطحن الحبوب والفواكه المجفّفة كالزبيب والقُطّين ومنتجات الألبان كالجميد والسمن والزبدة، وصناعة النسيج كالبُسط وبيوت الشعر والمفارش، وصناعة القش كالحُصر والسلال، وصناعة الفخار كجرار الماء والزيت وأواني الطعام، والصناعات المعدنية كسكّة الحراثة والمنجل، وصناعة العربات، وتصليح البنادق وعمل البارود، وتبييض أواني النحاس، وصياغة الفضّة والذهب، والصناعات الخشبية كالمِحراث الخشبي والأبواب والشبابيك والصناديق ولوح الدّراس.
ومن المهن التي كانت سائدة في تلك الفترة: الطبيب الشعبي، والخبّاز، والسمكري الذي يُصلح الأدوات المعدنية، والصبّاغ، وغيرها.
ثالثًا: التجارة
شهِدت التجارة تراجعًا واضحًا في الأردنّ بسبب الاضطرابات الاجتماعية، وانعدام الأمن، وفقر السكان، وتعرّض القوافل التجارية لهجمات اللصوص وقُطّاع الطرق.
كان الفلاح يبيع ما تبقّى من محصوله بعد الضرائب في أسواق القصبات من أجل تلبية حاجاته المنزلية، أو كان التجّار يخرجون إلى القرى ويقيمون في الخيام؛ من أجل شراء المحاصيل بأبخس الأثمان ويحتكرونها ويبيعونها بأسعار فاحشة، وكان هؤلاء التجار ينقلون المحاصيل على ظهور الدواب إلى القدس ونابلس وحيفا وعكّا، وقسم آخر عن طريق سكّة الحديد إلى الشام وبيروت.
ارتبطت مناطق الأردنّ تجاريًّا بالمناطق المجاورة لها، فمثلًا ارتبطت الكرك بالقدس والخليل، ومعان بمصر والحجاز، والسلط بنابلس والقدس، وعجلون بفلسطين ودمشق وبيروت؛ وبخاصّة بعد مدّ سكّة حديد الحجاز.
من أبرز الموادّ التي كانت تُصدّر من الأردنّ إلى المناطق المجاورة: القلي وهي نبته صحراوية تنمو في البلقاء تدخل في صناعة الصابون كانت تُصدّر إلى نابلس، والحبوب بأنواعها كالقمح والشعير والعدس والذرة، والزبيب، والصوف والشعر والوبر والجلود، والسمن.
تداول السكان النقد المتداول في تلك الفترة مثل: الليرة العثمانية الذهبية والمجيدي والبارة والبشلك، والليرة الذهبية الإنجليزية والفرنساوية.
رابعًا: الضرائب والرسوم
كانت الدولة العثمانية تتقاضى الضرائب والرسوم بأشكالها، كضريبة العُشر على المزروعات، وضريبة الويركو المفروضة على الأغنام والجمال والأبقار، وضريبة المسقّفات على الأبنية، والضرائب العُرفية التي كانت تُفرض في أوقات طارئة مثل الحرب.