اللغة العربية فصل ثاني

العاشر

icon

الوحدة السّادسة 

أنا والآخرُ

                      ثقافةُ التّعامل مَعَ الآخرِ

 

قالَ تعالى في سورةِ النّحْلِ : ( ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ (125) وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126) وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ (127) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128 ).

 

الآيات من سورة ( النّحل ): ترشدنا إلى ضرورة مراعاة أصول القواعد الأخلاقيّة في تعاملنا مع الآخر ، مستندين إلى العلم والمنطق الذي يُقنع العقول ، والكلام الطّيّب الذي تَرِقُّ له القلوب ، في سبيل التّعايش الأمثل في مجتمع تتعدّد فيه مذاهب النّاس ومعتقداتهم .

 

الشّرح :

﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة﴾ أي ادع يا محمد الناس إِلى دين الله وشريعته القدسية بالأسلوب الحكيم، واللطف واللين، بما يؤثر فيهم وينجح، لا بالزجر والتأنيب والقسوة والشدة ﴿وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي وجادل المخالفين بالطريقة التي هي أحسن ومن طرق المناظرة والمجادلة بالحجج والبراهين، والرفق واللين ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي إن ربك يا محمد هو العالم بحال الضالين وحال المهتدين.
فعليك أن تسلك الطريق الحكيم في دعوتهم ومناظرتهم، وليس عليك هدايتهم، إِنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ أي وإن عاقبتم أيّها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم فعاملوه بالمثل ولا تزيدوا .

﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ أي ولئن عفوتم وتركتم القصاص فهو خير لكم وأفضل، وهذا ندبٌ إِلى الصبر، وترك عقوبة من أساء، فإن العقوبة مباحة وتركها أفضل.

﴿واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ أي واصبر يا محمد على ما ينالك من الأذى في سبيل الله، فما تنال هذه المرتبة الرفيعة إلا بمعونة الله وتوفيقه ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ أي لا تحزن على الكفار إِن لم يؤمنوا ﴿وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي ولا يضقْ صدرك بما يقولون من السَّفه والجهل، ولا بما يدبرون من المكر والكيد ﴿إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ﴾ أي مع المتقين بمعونته ونصره، ومع المحسنين بالحفظ والرعاية، ومن الله معه فلن يضرَّه كيد الكائدين.

               ************************* 

 

و قال تعالى في سورة هودٍ : ( وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ (119) وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَآءَكَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةٞ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنَّا عَٰمِلُونَ (121) وَٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ (123 ).

 

- الآيات من سورة ( هود ) تبيّن أنّ التّعدّديّة بين البشر سُنّة كونيّة إلهيّة ، وآية كُبرى من آيات الله تعالى في خلقِهِ ، وأنّ الإسلام قد ضرب أروع الصّور في التّحضُّر والرُّقيِّ ؛ لبيان علاقة الإنسان بأخيه الإنسان .

الشّرح

﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي لو شاء الله لجعل الناس كلَّهم مؤمنين مهتدين على ملة الإِسلام، ولكنَّه لم يفعل ذلك للحكمة.

 ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ﴾ أي ولا يزالون مختلفين على أديان شتى، وملل متعددة ما بين يهودي، ونصراني، ومجوسي، إلا أناساً هداهم الله من فضله وهم أهل الحق .

﴿ولذلك خَلَقَهُمْ﴾ اللام لامُ العاقبة أي خلقهم لتكون العاقبة اختلافهم ما بين شقي وسعيد، قال الطبري: المعنى وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، فريق في الجنة، وفريقٌ في السعير.

 ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ أي تمَّ أمر الله ونفذ قضاؤه بأن يملأ جهنم من الجنّ والإِنس من الكفرة الفجرة جميعاً قال الألوسي: والجملة متضمنة معنى القَسَم ولذا جيء باللام في ﴿لأَمْلأَنَّ﴾ وكأنه قال: واللهِ لأملأن جهنم من أتباع إِبليس من الإِنس والجن أجمعين.

 ﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ أي كل هذه الأخبار التي قصصناها عليك يا محمد من أخبار الرسل السابقين، إِنما هي بقصد تثبيتك على أداء الرسالة، وتطمين قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة فتصبر كما صبروا .

﴿وَجَآءَكَ فِي هذه الحق﴾ أي جاءك في هذه الأنباء التي قصها الله عليك النبأ اليقيني الصادق. 

﴿وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي وجاءك في هذه الأخبار أيضاً ما فيه عظة وعبرة للمعتبرين، وخصَّ المؤمنين بالذكر؛ لانتفاعهم بمواعظ القرآن .

﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ أي اعملوا على طريقتكم ومنهجكم إِنا عاملون على طريقتنا ومنهجنا، وهو أمرٌ ومعناه التهديد والوعيد.

 ﴿وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ تهديدٌ آخر أي انتظروا ما يحلُّ بنا إِنا منتظرون ما يحل بكم من عذاب الله .

﴿وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ أي علمُ ما غاب وخفي فيهما، كلُّ ذلك بيده وبعلمه .

 ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ﴾ أي إِليه يردُّ أمر كل شيء، فينتقم ممن عصى، ويثيب من أطاع وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتهديد للكفار بالانتقام منهم .

﴿فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ أي اعبد ربَّك وحده، وفوّضْ إِليه أمرك، ولا تعتمدْ على أحدٍ سواه، فإنه كافٍ من توكَّل عليه .

﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ويجازي كلًّا بعمله .

         ************************************************************************************************** 

 

و قال تعالى في سورة القصص : ( وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴿51﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ﴿52﴾ وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ﴿53﴾ أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿54﴾ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴿55﴾ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿56﴾.

 

الآيات من سورة ( القصص ): تذكر صفات المؤمنين ، الذين يُحسنون آداب الردّ والخطاب ؛ فيتعاملون بالقول السّديد ، حتّى مع الّذين يخالفونهم في المنهج والمعتقد والعمل .

 

الشّرح :

﴿وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي ولقد تابعنا ووالينا لقريش القرآن يتبع بعضُه بعضاً، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ونصائح ومواعظ ليتعظوا ويتذكروا بما فيه. قال ابن الجوزي: المعنى أنزلنا القرآن يتبع بعضُه بعضاً، ويخبر عن الأمم الخالية كيف عُذبوا لعلهم يتعظون .

﴿الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ﴾ أي الذين أعطيناهم التوراة والإِنجيل من قبل هذا القرآن - من مسلمي أهل الكتاب - هم بهذا القرآن يصدقون قال ابن عباس: يعني من آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل الكتاب.

 ﴿وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ﴾ أي وإذا قرئ عليهم القرآن قالوا صدقنا بما فيه .

﴿إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ﴾ أي كنا من قبل نزوله موحدين لله، مستسلمين لأمره، مؤمنين بأنه سيبعث محمدًا وينزل عليه القرآن قال تعالى ﴿أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ أي أولئك الموصوفون بالصفات الجميلة يعطون ثوابهم مضاعفاً، مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرةً على إيمانهم بالقرآن وفي الحديث
﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي بسبب صبرهم على اتّباع الحقِّ، وتحملهم الأذى في سبيل الله. قال قتادة: نزلت في أناسٍ من أهل الكتاب، كانوا على شريعةٍ من الحق يأخذون بها وينتهون إليها، حتى بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فآمنوا به وصدَّقوه، فأعطاهم الله أجرهم مرتين بما صبروا، وذُكر أن منهم سلمان وعبد الله بن سلام .

﴿وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة﴾ أي ويدفعون الكلام القبيح كالسب والشتم بالحسنة أي الكلمة الطيبة الجميلة قال ابن كثير: لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون .

﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ أي ومن الذي رزقناهم من الحلال ينفقون في سبيل الخير.

 ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ﴾ أي وإذا سمعوا الشتم والأذى من الكفار وسمعوا ساقط الكلام، لم يلتفتوا إليه ولم يردُّوا على أصحابه .

﴿وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾ أي لنا طريقنا ولكم طريقكم 

﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ﴾ أي سلام متاركة ومباعدة.

 قال الزجاج: لم يريدوا التحية وإنما أرادوا بيننا وبينكم المتاركة .

﴿لاَ نَبْتَغِي الجاهلين﴾ أي لا نطلب صحبتهم ولا نريد مخالطتهم قال الصاوي: كان المشركون يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: تباً لك أعرضتم عن دينكم وتركتموه! فيعرضون عنهم ويقولون لنا أعمالكم. مدحهم تعالى بالإِيمان، ثم مدحهم بالإِحسان، ثم مدحهم بالعفو والصفح عن أهل العدوان.

 

ثم قال تعالى مخاطباً رسوله ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أي إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود إنك يا محمد لا تقدر على هداية أحد، مهما بذلت فيه من مجهود، وجاوزت في السعي كل حدٍّ معهود ﴿ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي ولكنه تعالى بقدرته يهدي من قدر له الهداية، فسلم أمرك إليه فإنه أعلم بأهل السعادة والشقاوة ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين﴾ أي هو تعالى العالم بمن فيه استعداد للهداية والإِيمان فيهديه ، قال المفسرون: نزلت في عمه "أبي طالب" حين عرض عليه الإِسلام عند موته فأبى، قال أبو حيان: ومعنى ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ أي لا تقدر على خلق الهداية فيه.

               ****************************************************************************************** 

 

وقال تعالى في سورة الفُرقان : ( وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا (63) وَٱلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمۡ سُجَّدٗا وَقِيَٰمٗا (64) وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصۡرِفۡ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَآءَتۡ مُسۡتَقَرّٗا وَمُقَامٗا (66) وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا (67) وَٱلَّذِينَ لَا يَدۡعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ وَلَا يَقۡتُلُونَ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَلَا يَزۡنُونَۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ يَلۡقَ أَثَامٗا (68) يُضَٰعَفۡ لَهُ ٱلۡعَذَابُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَيَخۡلُدۡ فِيهِۦ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَإِنَّهُۥ يَتُوبُ إِلَى ٱللَّهِ مَتَابٗا (71) وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا (72) وَٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِـآياتِ رَبِّهِمۡ لَمۡ يَخِرُّواْ عَلَيۡهَا صُمّٗا وَعُمۡيَانٗا (73) وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُوْلَٰٓئِكَ يُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوۡنَ فِيهَا تَحِيَّةٗ وَسَلَٰمًا (75) خالِدِينَ فِيهَاۚ حَسُنَتۡ مُسۡتَقَرّٗا وَمُقَامٗا (76) .

 

الآيات من سورة ( الفُرقان ): تصوّر لنا ملامح الشّخصيّة الإيمانيّة ، التي يريد الله تعالى لعباده أن يتمثّلوها في سلوكاتهم العمليّة وحياتهم العمليّة وحياتهم اليوميّة بجوانبها كافّة ؛ الرّوحيّة منها والماديّة .

 

الشّرح

﴿وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً﴾ الإِضافة للتشريف أي العباد الذين يحبهم الله وهم جديرون بالانتساب إليه هم الذين يمشون على الأرض في لين وسكينة ووقار، لا يضربون بأقدامهم أشراً ولا بطراً، ولا يتبخترون في مشيتهم .

﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ أي وإذا خاطبهم السفهاء بغلظةٍ وجفاءٍ قالوا قولاً يسْلمون فيه من الإِثم. قال الحسن: لا يجهلون على أحد، وإِن جُهل عليهم حَلُموا .

﴿وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ أي يُحْيُون الليل بالصلاة ساجدين لله على جباههم، أو قائمين على أقدامهم .

﴿والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ﴾ أي يدعون ربهم أن ينجيهم من عذاب النار، ويبتهلون إليه أن يدفع عنهم عذابها ﴿إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً﴾ أي لازماً دائماً غير مفارق ﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة. قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم.

 ﴿والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ هذا هو الوصف الخامس من أوصاف عباد الرحمن والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيِّقين بحيث يصبحون بخلاء ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ أي وكان إنفاقُهم وسطاً معتدلاً بين الإِسراف والتقتير .

﴿والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ﴾ أي لا يعبدون معه تعالى إلهاً آخر، بل يوحّدونه مخلصين له الدين .

﴿وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق﴾ أي لا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحقُّ أن تُقتل به النفوس من كفرٍ بعد إيمان، أو زنىً بعد إحصان، أو القتل قِصاصاً .

﴿وَلاَ يَزْنُونَ﴾ أي لا يرتكبون جريمة الزنا التي هي من أفحش الجرائم ،

﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً﴾ أي ومن يقترف تلك الموبقات العظيمة من الشرك والقتل والزنى يجد في الآخرة النكال والعقوبة ثم فسَّرها بقوله ﴿يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة﴾ أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي.

 ﴿وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً﴾ أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين 

﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً﴾ أي إلاّ من تاب في الدنيا التوبة النصوح وأحسن عمله ﴿فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ أي يكرمهم الله في الآخرة فيجعل مكان السيئات حسنات .

﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي واسع المغفرة كثير الرحمة .

﴿وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً﴾ أي ومن تاب عن المعاصي وأصلح سيرته فإن الله يتقبل توبته ويكون مرضياً عند الله تعالى .

﴿والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ هذا هو الوصف السابع من أوصاف عباد الرحمن أي لا يشهدون الشهادة الباطلة - شهادة الزور - التي فيها تضييعٌ لحقوق الناس .

﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً﴾ أي وإذا مرُّوا بمجالس اللغو - وهي الأماكن التي يكون فيها العمل القبيح كمجالس اللهو، والسينما، والقمار، والغناء المحرَّم - مرُّوا معرضين مكرمين أنفسهم عن أمثال تلك المجالس قال الطبري: واللغوُ كلُّ كلامٍ أو فعلٍ باطل وكلُّ ما يُستقبح كسبّ الإِنسان، وذكر النكاح باسمه في بعض الأماكن، وسماعِ الغناءِ مما هو قبيح، كلُّ ذلك يدخل في معنى اللغو الذي يجب أن يجتنبه المؤمن.

 ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ أي إِذا وُعظوا بآيات القرآن وخُوّفوا بها 

﴿لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً﴾ أي لم يُعرضوا عنها بل سمعوها بآذانٍ واعية وقلوبٍ وجلة.

 ﴿والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ أي اجعل لنا في الأزواجِ والبنين مسرةً وفرحاً بالتمسك بطاعتك، والعمل بمرضاتك.

 ﴿واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ أي اجعلنا قُدوة يقتدي بنا المتقون، دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بنا في الخير .

﴿أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي أولئك المتصفون بالأوصاف الجليلة السامية ينالون الدرجات العالية، بصبرهم على أمر الله وطاعتهم له سبحانه

 ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً﴾ أي ويُتلقَّون بالتحية والسلام من الملائكة الكرام.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي مقيمين في ذلك النعيم لا يموتون ولا يُخْرجون من الجنَّة لأنها دار الخلود ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ أي ما أحسنها مقراً وأطيبها منزلاً لمن اتقى الله.

 

المُحسنات البديعيّة :

- الطباق بين السجود والقيام ﴿سُجَّداً وَقِيَاماً﴾ وكذلك بين الإِسراف والتقتير ﴿أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ .
 

المقابلة اللطيفة بين نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار ﴿حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ مقابل قوله عن أهل النار ﴿سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾.

 

( المرجع في الشّرح : كتاب صفوة التّفاسير )

 

                  

Jo Academy Logo