التعلم القبلي
أعلل:تمتاز الشريعة الإسلامية بمجموعة من الخصائص التي تجعلها صالحة لكلِّ زمان ومكان.
ذلك أنَّها رباّنية المصدر؛ فهي من عند الله تعالى؛ سواء في التصوُّرات الاعتقادية، أو الشرائع التعبُّدية، أو القِيَم الأخلاقية، أو في تنظيمها معاملات الناس، إلى جانب العناية بالإنسان وتكريمه.
وهي أيضًا شا بحيث تستوعب جميع جوانب الحياة ومجالاتها. ملة
وهي كذلك مرنة؛ إذ يُمكِنها الاستجابة لحاجات الناس المُتجدِّدة، والتعامل مع مختلف الأحوال والظروف.
وعالمية؛ فهي مُوجَّهة إلى جميع الناس على اختلاف أعراقهم وألوانهم لغاتهم.
أَسْتَذْكِرُ (المرونة، الشمول، العالمية، الإيجابية، والوضوح) |
الفهم والتحليل
تتصف الشريعة الإسلامية بالوسطية في جوانب الحياة جميعها؛ ما يجعلها: مُناسِبة للإنسان، وقادرة على الوفاء بحاجاته، ومُنسجِمة مع قدراته.
أولًا: مفهوم الوسطية في الشريعة الإسلامية
تعُرَّف الوسطية بأنَّها: المنهج الحقُّ المُعتدِل الذي شرعه الله تعالى للناس في مناحي الحياة كلها، بما يتناسب وخَلْق الإنسان، وقدراته، وتحقيق غاية خَلْقه ووجوده.
وقد وصف الله تعالى الأُمَّة التي تَتَّبِع هذا المنهج بالأُمَّة الوسط.
قال تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطًا﴾؛ أيْ أهل دين وسط بين الإفراط والتفريط. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ باِلْحَنيِفِيَّةِ السَّمْحَةِ».
والحنيفية السمحة هي مِلَّة الإسلام السمحة التي تميل عن الباطل إلى الحقِّ، ولا حرج فيها، ولا تضييق على الناس.
وقد تجلَّت الوسطية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته بصورة واضحة، فكان هدي سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التوسُّط والاعتدال في جميع أمور حياته.
وممّا يدلُّ على ذلك قول أُمِّ المؤمنين السيِّدة عائشة « مَا خُيِّرَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَِّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَم يَكُنْ إثِْمًا».
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَِّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إلا غَلَبَهُ».
ولمّا بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن أوصاهما بقوله صلى الله عليه وسلم: « يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا».
من الألفاظ المُناقِضة للوسطية:
الإفراط: التشدُّد في أداء الأعمال والواجبات بما يتجاوز الحدَّ الذي أقرَّه الشرع، وهو من الغُلُوِّ.
التفريط: التهاون، وعدم أداء الواجبات على الوجه الذي قرَّره الشرع.
ثانيًا: مجالات الوسطية في الشريعة الإسلامية
تجلَّت وسطية الشريعة الإسلامية في مجالات عِدَّة، أبرزها:
أ . الوسطية في الاعتقاد:
من مظاهر الوسطية في العقيدة:
1) توحيد الله تعالى:
- دعت الشريعة الإسلامية إلى الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وأنهَّ الإله الواحد الأحد.
- لم تجحد الشريعة الإسلامية وجود الله سبحانه وتعالى كما فعل المُلحِدون، ولم تقل بتعدُّد الآلهة كما كان حال كثير من الأُمم القديمة التي تعدَّدت آلهتها، مثل: إله الخير، وإله الشَّرِّ، وإله المطر، وإله الحُبِّ، وإله الحرب.
الدليل: قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾.
2) النظرة إلى الأنبياء والمرسلين:
- أكَّدت العقيدة الإسلامية أنَّ الرُّسُل الكرام جميعًا هم موضع تقدير واحترام، وأنَّ الله تعالى أرسلهم من البشر مُبشِّرين ومُنذِرين.
- استنكر القرآن الكريم قول مَنْ أنزلوا الأنبياء والرُّسُل منزلة فيها تأليه وشِرك بالله تعالى.
الدليل: قال تعالى: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا﴾.
3) النظرة إلى الحياة الدنيا والآخرة:
- جاءت الشريعة الإسلامية وسطًا بين الذين هجروا الدنيا وحرموا أنفسهم من طيِّباتها، ومَنْ عَدّوا متاع الدنيا هدف الحياة ونسوا الآخرة.
- دعا الإسلام إلى التوازن والاعتدال في العمل للحياة الدنيا والاستمتاع بطيِّباتها، وحَثَّ - في الوقت نفسه- على الاستعداد للآخرة.
الدليل: قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾.
4) الأخذ بالأسباب، والتوكُّل على الله تعالى:
جمعت الشريعة الإسلامية بين الأخذ بالأسباب النافعة والتوكُّل الصادق على الله تعالى، فلم تكن كمَنْ ترك الأخذ بالأسباب، واكتفى بالتوكُّل على الله تعالى في حصول النتائج، ولم تكن كمَنْ رأى أنَّ النتائج لا يُمكِن أنْ يتحقَّق وجودها في الكون إلّا بالأسباب؛ فألغى التوكُّل على الله تعالى. الدليل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احْرِصْ عَلَ ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ » (رواه مسلم).
أفكر أُفكِّرُ في وسطية الإسلام من حيث النظرة إلى الحياة الدنيا والآخرة، وكيف يُؤثِّر ذلك في سعادة الإنسان. |
دعا الإسلام إلى التوازن والاعتدال في العمل للحياة الدنيا والاستمتاع بطيباتها، وحث في الوقت نفسه على الاستعداد للآخرة. |
ب . الوسطية في التشريع:
جاءت التشريعات في الإسلام مراعيةً لطاقة الإنسان وقدرته؛ إذ لا يوجد فيها مَشقَّة أو حرج على المكُلَّف.
الدليل: قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾.
من مظاهر الوسطية في التشريع:
1. الوسطية في العبادات:
- راعت الشريعة الإسلامية أحوال الناس وظروفهم، واختلاف قدراتهم وطاقاتهم.
- لم يُكلِّف الله تعالى الإنسان من العبادات فوق طاقته.
- ذَمَّ سبحانه الإفراط والتفريط في العبادات.
الدليل: قال تعالى: (لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها).
أمثلة:
- في الصلاة: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإطالة في صلاة الجماعة بما يَشقُّ على الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: «أَيُّها النَّاسُ إنَِّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإنَِّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الحْاجَة».
- في الصيام «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ»(الْوِصَالِ فِي الصِّيَامِ: تعمُّد ترك الأكل يومين فصاعدًا).
أتوقف
يظنُّ بعض الناس أنَّ الوسطية في العبادات تعني الترخُّص والتخفيف في العبادة. وهذا خطأ؛ فالوسطية في العبادات تعني أداء الواجبات، وعدم إهمالها أو التهاون فيها؛ لأنَّ التهاون في العبادات وإهمالها يوجِب غضب الله تعالى، وهو مُخالِف لمبدأ الوسطية.
أتأمل وأستنتج أتأَمَّلُ الحديث النبوي الشريف الآتي، ثمَّ أَسْتَنْتِجُ آثار الغُلُوِّ في العبادات: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَم أُخْبَر أَنَّكَ تَقُومُ اللَّيْلَ، وَتَصُومُ النَّهَارَ». قُلْتُ: إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَ: «فَإنِّكَ إذا فَعَلْتَ ذَلكِ هَجَمَتْ عَيْنُكَ، وَنَفِهَتْ نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِنَفْسِكَ حَقًّا، وَلِأهْلِكَ حَقًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ» (هَجَمَتْ: ضَعُف بصرها، نَفِهَتْ: تَعِبت وأُجهِدت). |
المبالغة في العبادة يصحبها تقصير في حقوق أخرى، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الطبيعة البشرية لا تتحمل الغلو في العبادات. |
2. الوسطية في المعاملات المالية:
تبرز وسطية الشريعة الإسلامية في مراعاة التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة؛ لذا لم تفتح الشريعة الإسلامية باب حرية كسب المال على مصراعيه، وبخاصَّة إنْ كان ذلك بوسائل تقوم على الاستغلال والإضرار بالمجتمع (مثل: الرِّبا، والاحتكار)، وتؤدّي إلى الظلم الاجتماعي. وبالمُقابلِ، فإنَّ التشريع الإسلامي لم يسلب الأفراد حقَّ المُلْكية الفردية والكسب الشخصي، بل جعل ذلك متاحًا ضمن ضوابط مُعيَّنة، وألزم الأفراد بواجبات مالية مُحدَّدة تجاه مجتمعهم من دون أنْ تُثقِل كاهلهم؛ فنظام الاقتصاد الإسلامي أساسه الحقُّ، والعدل، والتكافل، والتضامن؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى.
من الأمثلة على الوسطية في مجال المعاملات المالية:
● التوازن بين الإسراف والتقتير.
الدليل: قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا﴾؛ فقد رفض الإسلام التبذير والتقتير، وأمر بالتوسُّط في الإنفاق.
3. الوسطية في الأحوال الشخصية:
تظهر وسطية الشريعة الإسلامية في الأحوال الشخصية في كلٍّ ممّا يأتي:
● الزواج: تمثَّلت وسطية الإسلام بالترغيب في الزواج، والنهي عن التبتُّل (يُقصَد بالتبتُّل الانقطاع عن الزواج)،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي». فالإسلام لم يُحرِّم الزواج، ولم يُطلِقْه بما شاء من النساء.
● الطلاق: تجلَّت وسطية الشريعة الإسلامية في إباحة الطلاق؛ تيسيرًا على الناس عند استحالة الحياة الزوجية. قال تعالى:﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾؛ فهي لم تمنع الطلاق مُطلَقًا كما هو الحال عند بعض الطوائف، ولم تُبِحْه إباحة مُطلَقة من دون قيود كما كان حال أهل الجاهلية.
ج. الوسطية في الأخلاق:
اعتنت الشريعة الإسلامية بتهذيب النفس، وتطهيرها، وتنمية الخير فيها. ولهذا دعت إلى مكارم الأخلاق، وحَثَّت على كلِّ خُلُق كريم. قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
فالوسطية في الأخلاق تتمثَّل في شخصية المسلم وسلوكه، وتقوم على دعوته إلى الاعتدال في أموره كلها، بحيث يكون شجاعًا، لا مُتهوِّرًا وجبانًا، ويكون حَيِيًّا، لكنَّ حياءه لا يمنعه من قول الحقِّ، ويكون حليمً، لكنَّ حِلْمه لا يجعله ضعيفًا.
أتدبر وأستنتج أَتَدَبَّرُ الآية الكريمة الآتية، ثمَّ أَسْتَنْتِجُ منها مظاهر الوسطية في الأخلاق: قال تعالى:(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)(لقمان:18). |
تتمثل مظاهر الوسطية في الأخلاق في شخصية المسلم وسلوكه، وتقوم على دعوته إلى الاعتدال في أموره كلها، فلا يتكبر فيحقر عباد الله ويعرض عنهم. |
ثالثًا: آثار وسطية الشريعة الإسلامية
أ . قدرة المُكلَّف على الالتزام بالتكاليف الشرعية؛ لأنَّها تراعي وُسْعه وطاقته، ولا تَشقُّ عليه.
ب. انتشار الإسلام، وإقبال الناس عليه: للأسباب الآتية:
1. سهولة تكاليفه، ويُسْرها على الناس. 2. عدم تكليفهم بما لا يستطيعون.
3. لمنهج الإسلام القائم على الرفق واللين والإقناع بالأدلَّة العقلية والعلمية.
الدليل: قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
ج. وجود مجتمع يقوم على الفضائل الخُلُقية، ويحترم الإنسان وحريته والكرامة الإنسانية، ويساوي بين الناس في الحقوق والواجبات، ويعمل على إعمار الكون وتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة.
أتأمل وأبين أَتَأَمَّلُ الحديث النبوي الشريف الآتي، ثمَّ أَسْتَدِلُّ به على آثار الوسطية: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ اللهَ يُحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» (رواه أحمد). |
قدرة المكلف على الالتزام بالتكاليف الشرعية؛ لأنها تراعي وسعه وطاقته، ولا تشق عليه. |
الْإِثْراءُ وَالتَّوَسُّعُ
من السلوكات التي تُناقِض الوسطية، وتنتشر في بعض الأحيان، التطرُّف الفكري: وهو سلوك يتسم بالغُلُوِّ، ومجاوزة حدِّ الاعتدال والتوسُّط.
من أسباب نشأة التطرف الفكري في عصرنا الحاضر:
1) الجهل بالعلم الشرعي.
2)الصحبة السيِّئة.
3)المشكلات الاقتصادية المُتفاقِمة.
4)انتشار الفقر.
5)ندرة فرص العمل للشباب.
6)التضييق في حرية الرأي والتعبير.
7) هيمنة بعض الدول القويَّة على الدول الضعيفة، ومحاولة الاستيلاء على خيراتها.
يُمكِن التصدّي لظاهرة التطرُّف الفكري بتقديم حلول وقائية وعلاجية، تحفظ الشباب والمجتمع كله، مثل:
1. الإسهام في التوعية الفكرية، وبيان الضرر الذي يُسبِّبه التطرُّف الفكري للفرد والمجتمع، وتصحيح المفاهيم السائدة وَفق رؤية شرعية مُتَّزِنة، تتمثَّل في قيام المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية (مثل: المساجد، والمدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام) بدورها في التوعية الفكرية بمخاطر التطرُّف الفكري، وتعزيز الوسطية عن طريق الحوار العقلاني مع الشباب، أو مع مَنْ يتأثَّر بهذا الفكر.
2. التنشئة الاجتماعية السليمة التي تقوم على المنهج الديني الصحيح، والعمل على غرس القِيَم والمبادئ الأخلاقية في أوساط الشباب خاصَّةً، وأفراد المجتمع بوجه عامٍّ.
3. توفير فرص العمل للشباب، وشَغْل أوقات فراغهم بما هو مفيد ونافع، وسعي الشباب أنفسهم لبناء مشاريع ريادية تساعدهم على بناء حياة كريمة، وتنهض بمجتمعهم.
القيم المستفادة
أَعْتَزُّ بالشريعة الإسلامية، وبالوسطية التي تُميِّزها.