شرح :
تدينُ الإنسانيّةُ للحضارةِ الإسلاميّةِ بكثيرِ منَ الاختراعاتِ الّتي وضعت أسسًا مبكّرةً للتّطوّرِ العلميِّ وفهمِ الكونِ والظّواهرِ العلميّةِ والطّبيعيّةِ. فهذهِ الاختراعاتُ تعدُّ شاهدًا على عصورٍ ذهبيّةِ للمسلمينَ يحدونا الأملُ في استعادتِها.
ومنذُ أن ظهرَ الإسلامُ، والمؤذّنُ يدعو المسلمينَ للصّلاةِ في أوقاتٍ يحدّدُها الفلكُ وتتغيّرُ من يومٍ إلى يومٍ؛ لذلكَ كانَ من المهمِّ معرفةٌ هذهِ الأوقاتِ بدقّةٍ. ولهذا السّببِ طوّرَ المسلمونَ، قبلَ التكنولوجيا الحديثةِ، جهازًا بالغَ الدّقّةِ اسمهُ الأَسطُرلابُ ليساعدَهم في ذلكَ.
والأسطرلابُ آلةٌّ فلكيَّةٌ قديمةٌ، تقدّمُ نماذجَ ثنائيّةَ الأبعادِ للسّماءِ، تبيّنُ كيفَ تبدو من مكانٍ معيّنٍ وفي زمنٍ معيّنٍ، وكانَ بعضُ الأسطرلاباتِ كبيرَ الحجمِ، قطرُهُ بضعةُ أمتارٍ ، وأمَا بعضُهُ فصغيرٌ بحجمِ الكفِّ يمكنُ حملهُ، حتّى غدا الأسطرلابُ على سبيلِ المثالِ السّاعةَ الّتي يقتنيها كلُّ غنيٌّ لمعرفةِ الوقتِ، ومتابعةِ حركةِ أجرامِ السّماءِ آنذاكَ.
وقد أبدعَ العرب في رسم خرائطِ الأسطرلابِ بخطوطِ عربيّةِ غلبَ عليها الخطّانِ الكوفيُّ والمغربيُّ، ولا تكادُ المتاحفُ العالميَّةُ تخلو منَ الأسطرلاباتِ المزخرفةِ بالحروفِ العربيّةِ؛ ما يدلُّ على المكانةِ العاليةِ الّتي حظيَ بها علمُ الفلكِ العربيُّ في عصورِ الإسلامِ المزدهرةِ، وما جاءَ بعدَها من عصورٍ وأزمنةِ وأجيالٍ ورثت هذهِ الحضارةَ.
وحاولَ المسلمونَ تطويرَ أنواع مختلفةٍ من الأسطرلاباتِ: كالكرويّةِ والخطيّةِ، والكونيّةِ، الّذي أحدثَ تنويرًا في رسمِ خرائطِ النّجومِ. وألّفَ ((الفزاريُّ)) كتابًا في وصفِ الأسطرلابِ واستعملَهُ في القرنِ الثّامنِ الميلاديِّ.
وكتبَ الخوارزميُّ في مطلعِ القرنِ التّاسعِ مقالاتٍ عدیدةً، وغدتِ الأسطرلاباتُ بمثابةِ حواسيبَ فلكيّةِ وقياسيّةِ في زمانِها، تحلُّ المسائلَ المتعلّقةَ بمواقعِ الأجرامِ السّماويّةِ، كالشّمسِ والقمرِ، وتحديدِ ساعاتٍ اللّيلِ والنّهارِ، وقياسِ ارتفاعِ الشّمس، وحسابٍِ ذروةِ النّجمِ في كبدِ السّماءِ، ليسَ ذلكَ فحسبُ؛ فقد كانَ لها دورٌ في إرشادِ السّفنِ الحربيّةِ والتّجاريّةِ.
وطوَّر الزُّرقاليُّ الأسطرلابَ في القرنِ الحادي عشرَ الميلاديِّ؛ فصنعَ أسطرلابَا مميّزًا ودقيقًا، وسمّاهُ صحيفةَ الزُّرقالةِ. وفي بدايةِ عصرِ النّهضةِ الأوروبيّةِ، أخذَ الأوروبيّونَ هذا العلمَ منَ المسلمينَ عن طريقِ الأندلسِ في بدايةِ القرنِ الثّاني عشرَ الميلاديِّ، إلى أن جاءَ ((أحمدُ بنُ السّرّاجِ)) الّذي صنعَ أسطرلابَا مطوّرًا، وأمّا ((الطّوسيُّ))؛ فقدِ اخترعَ الأسطرلابَ
الخطّيَّ الّذي تتلخّصُ فكرتُه في إیجادِ آلةِ رصدٍ ثلاثیّةِ الأبعادِ ولیست ثنائيّةَ الأبعادِ.
حسنُ الباشا، موسوعةُ العمارةِ والآثارِ والفنونِ الإسلاميّةِ، مج 2، بيروت: أوراقٌ شرقيّةٌ،
1999، بتصرّفٍ