اللغة العربية 8 فصل ثاني

الثامن

icon

♦ الاستماع

عقارب الشّمس

وُلِدَ بشّار في مزرعة شاسعة المساحةِ، وَنَضَجَ شابًّا حكيمًا، متحدّثًا، خلابًا، أسمرَ ، متوسّط القامة، حاجباه رفيعان شديدا السّواد وعيناه بنيّتان حالمتان.

تنبلج هذه المزرعة من جهاتها الأربع عن حظائر الأبقار والماشية والخراف، ثمّ تفتح مصراعَيها على أرض منبسطة خضراءَ، يكسوها القمح، بينما تلتقي بمساحاتٍ مُعَدَّةٍ للأشجار المثمرة في الوسط، وتنتظمُ الشَّوارع غير المعبّدة بين الحقول، وتتوزّع حولها البيوت المشبعة بروائح الفاكهة الطّازجة، والورد البرّيّ، وتحيطها بيوتٌ خُصِّصَتْ للبطّ والإوز ّ والدَّجاج.

يرفع بشّار حفنةً من الطّين إلى أنفاسه، ثمَّ يُعيدها نحو الأرض بعدَ أن حفرَ حفرةً مناسبةً لشتلةٍ جديدةٍ، بينما قرناؤه يلعبون ويتلهوْنَ، يغرُزُ فأسَهُ جَانِبَ الشَّتلة، وينطلق إليهم غاضبًا، فيتركون ما في أيديهم ويعودونَ للعملِ.

قدّم شكوى مرَّاتٍ عدةً لمجلسِ المزرعةِ، واجتمعت رؤوسها الكبيرةُ إثرَ  إعلانٍ مستعجلٍ هذهِ المرّة، فقد فتحت شكواه أعينهم بعد أن تكرّرت الملاحظاتُ وَالحّتْ، وَقُيّدَتْ.

تولّى المجلس الرّقابة في أثناء العمل وقدّم حوافز تدعم المثابرين، وفرض عقوبات على المتقاعسين تصدّهم عن الكسل. هؤلاء الّذين تزايدت أعدادهم، وَكَثُرَتْ أخطاؤهم، وَقَلَّ نتاجُهُم ، ونَقَصَ دخل الواحد منهم، وبدأ الفقر -بسببهم - يظهرُ أوَّلَ مَرَّةٍ في أرجاء المزرعة.

توفّي المسؤول بعد سنواتٍ، وكان قد أوصى بأن يتولَّى مَنصِبَهُ أكثر الشّباب صلابة وقوَّةً وطموًحا وعطاءً وحبًّا للمزرعة، وقد رأى أنّه لا أحد يستحقّ المنصب غير بشّار.

لمْ يَنَمْ بشَّارٌ ليلتها، وكيف ينام وهو من اعتاد على تحمّل المسؤوليّة وتجدّد العطاء! أحلامه كبيرة وعظيمة، يريد لهذه المزرعة أن تزدهر وتنمو، وتحتلّ المساحات المحيطة بها، وتضمّ بقية المزارع المتفرّقة إليها، كي تتوحّد جميعها تحت راية واحدة، وهدف واحد، ومستقبل مشترك واعد.

أقام بشّار احتفاليّة خالِصَة المحبَّةِ، وذبح عددًا كبيرًا مِنَ العجول والأغنام، وَدَعَا الأهالي الّذين اجتمعوا فرحين بمسؤولهم الجديد المحبوب، وأعدّوا العشاء يدًا بيد، منهم مَنْ أحضر الطّاولات والكراسي ورتّبها، واهتمّ آخَرُونَ بِعَصْرِ الفاكهة وتزيين موائد الطّعام. ثمّ كلّ شيء بنظام وترتيب، إلَّا أَنَّ المُتقاعِسِينَ تجمهروا يتسامرون غير مكترثين لما يحدث.

لم يكن بشّار - صاحب الصَّوت الجهوري - في حاجة إلى معدّات تنقل الصّوت أو تكبّره. صعد إلى المنصة، وألقى خطابًا يليق بزعيم، ثم حثّهم بذكاء وحنكة على تخصيص يــوم مُعين ليعملوا فيه بتفان وجهد عاليين، يوم واحد فقط، يختلف عن سائر الأيام، يتعهد به الجميع أن يعملوا بكامل طاقتهم رغم الظروف، وقد حذر من أي تقاعس أو تعامل مع المُلهيات، وحذَّرَ أيضًا من إبداء الأعذار والحجج. قدّم اقتراحًا ، وقد رحّبوا به متحمسين، ولا سيّما حينما وَعَدَهم بتقديم مبلغ مالي كبير لأفضل مزارع، يستخدم مواهبه في إشعال الحماس والتّحدي، ورفع المعنويات والطاقات للبَذْلِ وَالعَمل.

وعندما حان اليوم المحدّد، انطلق النَّاسُ إلى أعمالهم بنشاط لمْ يُعهد من قبل، وتوزَّعَتْ لجان الرقابة تجس البيوت بحثًا عن متلكئين أو أصحاب أعذار. حينما حلَّ الغروب، تسلَّقَ بشَارٌ سَاعَةً كبيرة تتوسط المزرعة، وَنَزَعَ زُجَاجَها الخارجي الّذي أرخاه الليلة الفائتة، ثم مد يده إلى عقاربها وأعادها إلى حيث بدأت أوَّل النّهار، فعادت الشّمس إلى مشرقها، تنبت من بين رؤوس الجبال.

الْتَفَتَ إلى الفلّاحين ولم يجد بينهم متذمّرًا، أو مُتعبًا، وَكَأَنَّ النَّهار ما زال في أوَّلِهِ حقًا، وهم بطاقة عالية كَمَا عَزَمُوا أَن يكونوا بانتظار المكافأة. أغدق عليهمُ الطَّعامَ والشَّراب، وقسَّمَ النَّهَارَ إلى ساعات استراحة، وفقرات ترفيه. ظلّ الفلاحون يزرعون ويقطفون، ويحصدون، ويرعون المواشي، ويعتنون بالأبقار، وينثرون الحبوب للطّيور، ويقدمون الطّعام لبقيّة الحيوانات.

تحوّلت المزرعة إلى مزارع، انضمّ لها ما حولها، وتحوّلت هذه المزارع إلى جنان، وصارت محطّ التّجار جميعهم، واتّحدت جميع المناطق المحيطة تحت اسمه، وتحت راية واحدة كما خطط. وكان - كلّما حلّ غروب - يتسلّق السّاعة، ويمدّ يده إلى عقاربها ليُرجع الزّمن. وقد طاوعتهُ الشَّمس ولم تفتأ العقارب تنصاع لإرادَتِهِ ، والشَّمسُ ترقب صبرَهُ وَثباته، وجهد المزارعين، حتَّى ملّتِ اللُّعَبَةَ، وتعبت من تكرار نفسها، فمَكَثَتْ بعد منتصف السَّماءِ بقليل، كي لا تقتلهمْ بِحَرِّها، وَطَالَبَتِ الفُصول باستمرارية دورتها، فتعاقبت دون قسوة، إلى أن قالوا: إِنَّ الشَّمس لا تُشرقُ إِلَّا في دِيَارِهِ، ولا تغرب عنها أبدًا.

                         (  سمر الزّعبي ، كاتبة أردنيّة ، صدر لها عدّة مجموعات قصصيّة منها  )

Jo Academy Logo