(النَّاسِكُ وَابْنُ عِرْسٍ)
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف : لقد سمعت هذا المثل. فاضرب لي مثل الرّجل العجلان في أمره من غير رويّة، ولا نظر في العواقب.
قال الفيلسوف : إنَّهُ من لم يكن في أمره مثبّتًا، لم يزل نادمًا ، ويصير أمره إلى ما صار إليه النّاسك من قتل ابن عرس وقد كان له ودودًا.
قال الملك : وكيف كان ذلك ؟ قال الفيلسوف: زعموا أنَّ ناسكًا من النّساك بأرض جرجان، وكانت له امرأة جميلة، فمكثا زمنًا لم يُرزقا ولدًا إلى أن حملت بعمر كبير ، فسُرَّتْ المرأة، وسُرَّ النَّاسك بذلك، فحمد الله تعالى، وسأله أن يكون الحمل ذكرًا، وقال لزوجته: أبشري ! فإنّي أرجو أن يكون غلامًا لنا فيه منافع، وقرّة عين، أختار له أحسن الأسماء وأُحضر له سائر الأدباء. فقالت المرأة: ما يحملك أيُّها الرّجل على أن تتكلم بما لا تدري أيكون أم لا ؟ ومن فعل ذلك أصابه ما أصابَ النَّاسِكَ الَّذي أراق على رأسه السّمن والعسل . قال لها : وكيف ذلك ؟ قالت : زعموا أنَّ ناسكًا كان يجري عليه من بيت رجل تاجر في كل يوم رزق من السّمن والعسل، وكان يأكل منه قوّته وحاجته، ويرفع الباقي ويجعله في جرّة، فيعلّقها في وتد في ناحية البيت حتى امتلأت، فبينما النّاسك ذات يوم مستلق على ظهره والعكاز في يده والجرَّة معلقة على رأسه، تفكر في غلاء السّمن والعسل، فقال: سأبيع ما في هذه الجرّة بدينار، وأشتري به عشرة أعنز، فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر بطنًا، ولا تلبث قليلًا حتى تصير غنمًا كثيرة إذا ولدت أولادها.
ثم حرّر على هذا النّحو بسنين فوجد ذلك أكثر من أربعمئة عنز، فقال: أنا أشتري بها مئة من البقر، وأشتري أرضًا وبذرًا، وأزرع على الثّيران، وأنتفع بألبان الإناث ونتاجها، فلا يأتي علي خمس سنين إلّا وقد أصبت من الزّرع مالا كثيرًا، فأبني بيتًا فاخرًا، وأتزوّج -امرأة جميلة ذات حسن، ثمّ تأتي بغلام نجيب، فأختار له أحسن الأسماء، فإذا ترعرع أدبتُهُ وأحسنت تأديبه وأشدد عليه في ذلك، فإن -يقبل منّي، وإلّا ضربته بهذه العكّازة، وأشار إلى الجرّة فكسرها، فسال ما كان فيها على وجهه. وإنَّما ضربت لك هذا المثل لكي لا تعجل بذكر ما لا ينبغي ذكره، وما لا تدري أيصحّ أم لا يصحّ . فاتَّعظ النّاسك بما حكت زوجته.
ثم إنَّ المرأة ولدت غلامًا جميلًا ففرح به أبوه، وفي يوم حان لها أن تغتسل فقالت المرأةُ للنَّاسكِ : اقعد عند ابنك حتَّى أذهب فأغتسل وأعود. ثمّ إنّها انطلقت، وخَلفَتْ زوجها والغلام، فلم يلبث أن جاءه رسول الملك يستدعيه ولم يجد من يخلفه عند ابنه غيـر ابـن عــرس داجن عنده كان قد ربَّاهُ صغيرًا فهو عنده عديل ولده ، فتركَهُ النَّاسك -عند الصبيّ وأغلق عليهما البيت وذهب مع الرّسول. فخرج من بعض أحجار البيت حيّة سوداء فدنت من الغلام فضربها ابن عرس ثمّ وثب عليها فقتلها ثمّ قطعها وامتلأ فمه من دمها، ثم جاء النّاسك وفتح الباب فالتقاه ابن عرس كالمبشِّرِ له بما صنع من قتل الحيّة. فلما رآه ملونًا بالدَّم وهو مذعور طار عقله وظنَّ أَنَّهُ قد خنق ولده، ولم يتثبت في أمره ولم يُمهل نفسَهُ حتَّى يعلم حقيقة الحال، ويعمل بغير ما يظنّ من ذلك، ولكن أقبل على ابن عرس وضربه بعكازة كانت في يده على أم رأسه فمات. ودخل النّاسك فرأى ولده سليمًا حيًّا، وعنده جلد أسود مقطّع. فلما عرف القصَّة وتبين له سوء فعله في العجلة لطم على رأسه ، وقال : ليتني لم أرزق هذا الولد ولم أغدر هذا الغدر. ودخلت امرأته فوجدته على تلك الحال فقالت له: ما شأنك ؟ فأخبرها بالخبر من حسن فعل ابن عرس وسوء مكافأته له. فقالت: هذه ثمرة العجلة، فهذا مثل من لا يتثبت في أمره بل يفعل أغراضه بالسّرعة والعجلة.