اللغة العربية7 فصل أول

السابع

icon

 

ابنُ سينا الشيخُ الرّئيس

بعضُ العباقرةِ يَنبُغون في وطن من الأوطان، أو في عصر من العصور، فيُستغرَب نبوغُهم فيه، أمّا ابنُ سينا فلا يُستَغرَب نبوغُه في عصرِه ولا في وطنِه ولا في بيتِه.

وُلدَ ابنُ سينا في بيت علمٍ سنةَ 370هـ، ونشأ في بُخارَى، وهي موطنٌ من مواطن العلم في ذلك العصر، فحفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة، وتعلّم اللّغة، والفقه، والمنطق، والرّياضةَ، والجغرافيّةَ، وعلمَ الهيئة؛ وهو الاسمُ القديمُ لعلمِ الفَلَكِ. وقد بلغ في هذه العلومِ غايتَها وهو في الثّامنةَ عشرةَ من عمره. وكان من عادته إذا تحيّر في مسألة أن يتردّدَ إلى الجامع ويصلّي، ويبتهلَ إلى ((مُبدع الكلّ)) حتّى يتيسّرَ عليه فهمُّها.

وقد كان دون الخامسةَ عشرة حين اطّلع على بعض مراجع الطّبّ، فتعلّق بها، وعَكَفَ على قراءتِها، وقال: ((إنّ علم الطّبّ ليس من العلوم الصّعبة))، ولم يبلغِ السّابعةَ عشرةَ حتّى ذاعتْ شهرتُه بالتّطبيب، وقد تمكّنَ، وهو لم يتجاوز السّابعةَ عشرةً، من علاج الأمير نوحٍ بنِ منصور بعد أنْ عجَزَ الأطبّاءُ المشهورونَ عن علاجه، فقرّبه الأمير، وأذِن له في الاطّلاع على دار كتبه، فرأى من الكتب ما لم يعرفْ اسمَه كثيرٌ من النّاس، فنال من تلك المكتبة العظيمة فوائدَ كثيرة.

وعلى الرُّغم من أنّه كان يفضّل الفلسفة والرّياضيّات على الطّبّ وسائر العلوم، إلّا أنّ الأثرَ الّذي تركه في الطّبّ كان الأشهرَ من بين ما ترك من عشرات المؤلَّفاتِ في العلوم المختلفة؛ فقد أضحى طبيبَ العصرِ في الشّرقِ كلِّه، ثمّ إنّ كتبَه انتقلت إلى الغرب فأصبح طبيبَ العالمِ بأسره مدّةَ أربعةِ قرون.

وقد تُرجمَ كتابُه ((القانون)) في الطّبّ إلى اللّغة اللاتينيّة فأصبح مرجعًا للدّراسات الطّبّيّة في أوروبًا من

أقصاها إلى أقصاها، وظلّ يدرَّس في بعض جامعات أوروبّا حتّى منتصف القرن السّابعَ عشر؛ بل إنّ علماءَ أوروبّا كانوا يرون هذا الكتابَ جديرًا بتحمّل المشقّة في سبيل فهمه ونقلِه إلى الأوروبّيّين؛ فقد كانوا ينظرون إليه كما ينظرون إلى وحي من السّماء؛ يقول الطّبيبُ والمؤرِّخُ النّمساويّ ماكس نويِيِرْ غَر في كتابه عن تاريخ الطّبّ: («إنّهم كانوا ينظرون إلى كتاب («القانون)» كأنّه وحيٌّ معصوم». وقد استحقَّ ابنُ سينا لقبَ الشّيخ الرّئيس، وهو اللّقبُ الّذي عُرفَ به تقديرًا لمنزلته في الطبّ والفلسفة واللّغة وسائر ما أتقن من العلوم، وقد أنجزَ هذا المنجزَ العظيمَ في عمره الّذي لم يُجاوز سبعًا وخمسين سنة.

الشّيخ الرّئيس ابنُ سينا: عبّاس محمود العقّاد

Jo Academy Logo