أثر الشعر في مواجهة الغزو الصليبي والمغولي
تمهيد:
دور الشعر في مواجهة الغزو الصليبي والمغولي
الشعر أعمق من مجرد تعبير عن الفرح أو الحزن؛ فمهمته الأساسية تحريك حواس الأمة وإحاطتها بوعي الألم والفاجعة، ليس لليأس، بل لكشف مواطن الضعف وتوجيهها نحو الأفضل.
يتوقع من الشعر إثارة تأثيرات وجدانية وانفعالات دائمة. الشاعر ليس حالماً منعزلاً، بل دوره الأسمى هو هز ضمير الأمة، واستنهاض هممها، وغرس الأمل فيها. كما كان مطالباً باستشراف مستقبل الأمة والوقوف في واجهة مواجهة محنها.
نتيجة لمِحَن الغزو الصليبي والمغولي، طلع الشعر بدورين أساسيين لتوحيد الأمة ونهوضها:
|
الدور القيادي: تحقيق وحدة الأمة ودفعها للنهوض والمواجهة.
|
|
الدور الإعلامي الفني: إيصال الحقائق بأجمل وأبلغ أسلوب.
|
الشعر وسقوط بيت المقدس
أدت الأحداث الكبرى في العصر الأيوبي والمملوكي، مثل سقوط بيت المقدس سنة 492 هـ في أيدي الصليبيين؛ إلى نهوض الشعر للقيام بدوره في هذه المواجهات.ومن الدوافع التي ألأهبت وأشعلت شرارة الشعر لمواجهة الغزو نجدها:
- بيان الفواجع:
- رد الفعل: كان لسقوط المدن وبيت المقدس وقعٌ صادمٌ وأليمٌ على الشعراء، فكان الشعر أول وسيلة للرد على الفاجعة.
- المضمون: اعتمد الشعراء على رثاء المدن والبكاء عليها، واستخدموا التصوير الأليم لتوصيل حجم المأساة.
- الهدف: الشعر هو وسيلة لـ تذكير الأمة بخسائرها وغايته تحفيزها على الثأر والانتقام.
يقول شهاب الدين بن المجاور:
أَعَينَيَّ لا تَرْقَي مِنَ العَبَرَاتِ صِلِي بالبُّكا الآصال بالبُكُراتِ
لعلَّ سيولَ الدَّمْع يُطفئ فَيضُها تَوَقُّدَ ما في القلب من جمراتِ
- العاطفة الدينية (الدور التحريضي)
أولاً: سبب الاستفزاز:
- كان الغزو الصليبي ذا وجه ديني واضح وليس مجرد احتلال.
- المشهد المأساوي تضمن تدنيس المقدسات وكشف الكراهية الدينية الصليبية.
- هذا استفز العاطفة الدينية لدى الشعراء.
ثانياً: وظيفة الشعر وهدفه:
- تصوير الحزن: التعبير عن الجانب الحزين المتعلق بانتهاك المقدسات.
- التهييج والتحريض: هدف الشعر هو تهييج العاطفة الدينية في نفوس القادة والجند والناس، مؤكداً أن الصراع هو حرب دينية في الأساس.
الشاهد (الضرير الحمصي):
خاطب الضرير الحمصي صلاح الدين الأيوبي (يوسف) مشيراً إلى أن غضبه وانتصاره كان لأجل الدين، مما أرضى الرسول ﷺ:
فَيَا يُوسُفَ الْخَيْر الَّذِي فِي يَمِينِه مِنَ الْخَيْرِ مَا قَدْ غَارَ فِينَا وَأَنْجَدَا
غضبْتَ لِدِينِ أَنْتَ حَقًّا صَلَاحُه فَأَرْضَيْتَ لَمَّا أَنْ غَضِبْتَ مُحَمَّدَا
- رفض الاستكانة والذلة (تحريك المتخاذلين)
أولاً: سبب الرفض والاستياء:
- استياء الشعراء من حالة التخاذل التي أصابت بعض أبناء الأمة.
- لومهم لمن اكتفوا بدور المتفرجين أو الذين حمدوا الله على أن الغزو لم يصل إليهم بعد.
ثانياً: رد فعل الشعر وهدفه:
- قام الشعراء بالتعريض بموقف المتخاذلين والسلبيين.
- الهدف المباشر: الدعوة الصريحة إلى الكرامة ونبذ الذل والاستكانة والشكاية.
الشاهد (الأبيوردي):
يستنكر الأبيوردي على من ينامون أو يتخذون موقف المسالم رغم ما يحيط بهم من أحداث:
وَكَيفَ تَنَامُ العَينُ مِلءَ جُفُونِهَا عَلَى هَفَوَاتٍ أَيقَظَت كُلَّ نَائِم
تَسُومُهُمُ الرومُ الهَوَانَ، وَأَنتُمُّ تَجُرُّونَ ذَيلَ الخَفضِ فِعلَ المُسَالِم
- المعارك والانتصارات ( التحريض والتمجيد )
أولاً: الدوافع الإيجابية:
- كان للانتصارات والمعارك البطولية (التي هدفت لصد الغزو والتحرير) وقع عظيم، وشكلت دافعاً قوياً لإنشاد القصائد.
- الدافع الأكبر: فتح بيت المقدس الذي أدى لظهور قصائد رفعت من مستوى أدب العصر ونفضت عنه سِمة الانحطاط.
ثانياً: دور الشعر في المرحلة:
استنهاض الهمم: تحريض القادة والناس على حدٍ سواء للخروج إلى القتال، كما كان الشعراء يربطون النصر بالدعم الإلهي لزيادة اليقين.
- مواكبة المعركة (قبل وأثناء وبعد) حيث يتم ما يلي:
|
الغناء بالانتصارات والتمجيد |
|
استثارة الحماسة |
|
مدح القائد والجند |
|
تصوير البطولات والأحداث |
ثالثاً: الشواهد الشعرية:
- العماد الأصفهاني (في مدح صلاح الدين بعد الفتح):
فَلا يَسْتَحِقُّ القُدْسَ غَيْرُكَ فِي الوَرَى فَأَنْتَ الَّذِي دُونَهُ مِنْهُمُ فَتَحَ القُدْسَا
- أبو عليّ الحسن الجُوَيْنِيّ (في تمجيد الانتصارات):
جندُ السَّمَاء لهَذَا الْملك أعوان من شكٌّ فيهم فَهَذَا الْفَتْح برهَان
- القائد البطل
أولاً: أهمية القائد الملهم:
- لا يمكن فصل إلهام الشعر عن دور القادة الملهمين الذين قاموا بتوحيد الأمة وحمل راية الجهاد.
- الدافع للشعر: هو رؤية الشاعر للبطل الحَقّ هي أكبر دافع لقول الشعر المُصاحِب للبطولة.
ثانياً: أبرز النماذج القيادية التي ألهمت الشعر:
|
نور الدين محمود زنكي تميز بالجهاد والعدل، وانتزع أكثر من خمسين مدينة.
|
|
عماد الدين زنكي: مؤسس الدولة الزنكية في الموصل وحلب.
|
| صلاح الدين الألأيوبي صاحب الدور العظيم في قتال الصليبيين وفتح المقدس |
ثالثاً: العلاقة بين البطل والشعر (جوهر الفكرة):
- البطل هو صانع القصيدة: "الأبطال والقادة هم من صنعوا النصر ورفعوا من قدر الشعر ببطولاتهم، فكان البطل هو من أوجد القصيدة، وليست القصيدة من أوجدت البطل."
الشاهد (العماد الأصفهاني في مدح نور الدين زنكي):
عُقِدَتْ بنصرك رايةُ الْإِيمَانِ وبَدَتْ لعصرك آيَةُ الْإِحْسَانِ
كم وقعةِ لَك بالفرنج حَدِيثُّهَا قد سَار فِي الْآفَاق والبلدان
- شعراء الجهاد
لقد كان لـ شعر الجهاد مكانة وشأن عظيم في هذا العصر؛ إذ كان بمثابة الوجه الوضاء والمضيء الذي أنار ظلمة الفترة، وحمل الدور القيادي المُلهم للشعراء.
من أبرز الشعراء الذين برزوا في هذا الميدان:
- ابن منير الطرابلسي: مدح السلطان الملك العادل (محمود بن زنكي) في أبلغ قصائده، إذ يقول:
حَظِيتَ مِنَ المَعَالِي بِالمَعَانِي ولَاذَ النَّاسُ بِعَدْلِكَ بِالأَسَامِي.
- ابن الساعاتي (بهاء الدين بن الساعاتي): الذي قال في قصيدته مُظهِراً فرحة الفتح:
جَلَتْ عَزْمَاتُكَ الفَتْحَ المُبِينَا فَقَدْ قَرَّتْ عُيُونُ المُؤْمِنِينَا.
- الرشيد النابلسي: وقد أبدع في قصيدته التي تتحدث عن فتح بيت المقدس، ومطلعها يؤكد أن هذا الفتح كان منتظراً من الله
هَذَا الَّذِي كَانَتِ الآمَالُ تَنْتَظِرُ فَلْيَوْفِ لِلَّهِ بِما قَدْ نَذَرُوا.
- الخصائص الفنية لشعر الجهاد:
- الصدق الفنّيّ والموضوعيّ
يتجلى الصدق في شعر الجهاد على جانبين متكاملين:
- الصدق الموضوعي:
- يعني نقل الأحداث التاريخية كما وقعت فعلاً، دون مبالغة.
- مثال: تأكيد الشاعر على نجاح عماد الدين زنكي في استعادة مملكة الرُّهَا وتسجيل الحدث بأمانة تاريخية.
- الصدق الفني والشعوري:
- ينبع من وجدان الشاعر ومشاعره الصادقة.
- المضمون: التعبير بصدق عن الفرحة الكبيرة بالاستعادة، وعن الإعجاب والتقدير الشديد للقائد الذي أصبح رمزاً للجهاد واستعادة الكرامة.
نستنتج مما سبق أن : الشاعر يمثل جسراً بين تسجيل الوقائع بدقة وبين التعبير عن المشاعر الصادقة تجاه هذه الوقائع.
- غلبة المحسنات والصنعة البديعية
أولاً: الملاحظة العامة:
- يتميز شعر الجهاد بـ اهتمام واضح وكبير من الشاعر بالمحسنات البديعية والتزيين اللفظي الصنعة البديعية.
- في بعض الأحيان، هذا التركيز على جمالية اللفظ قد يَطغى على الاهتمام بالمعنى، رغم أهمية الموضوع (مثل الفتح والنصر).
ثانياً: مبرر استخدامها:
- يرى الشعراء أن المحسنات تجعل التعبير أجمل وأكثر تأثيراً في نفوس الناس.
- بالتالي، يصبح الشعر أبلغ في التعبير عن الفرح بالنصر.
ثالثاً: أمثلة المحسنات (من قصيدة ابن القيسراني):
- الطباق: في كلمتي: (صلاحه) وعكسها (فساده).
- الجناس: في كلمتي: (حديث) و (حديثه)، وكذلك في كلمتي: (المعاد) و (معاده).
- العاطفة الدينية
تظهر النزعة الدينية بوضوح وقوة في شعر الجهاد من خلال الجوانب التالية:
|
كثرة الألفاظ الدينية: |
تصوير الصراع كصراع ديني |
ربط النصر بالصلاح: |
|
العدو المحتل: الذي جلب الفساد للبلاد. |
|
- فنُّ التصوير والتخييل
أولاً: المفهوم العام:
- يظهر في شعر الجهاد اهتمام كبير بفن التصوير والتخييل الصور الفنية الجميلة.
- الشاعر لا يكتفي بسرد الأحداث، بل يستخدم الخيال لتجسيد الحالة العاطفية والنتائج المترتبة على النصر.
ثانياً: مثال على التصوير (صورة القلوب):
|
التصوير: تشبيه القلوب بالطيور.
|
|
التفصيل: القلوب التي غادرت أعشاشها (وُكَنَاتِها) خوفاً وقلقاً أثناء الاحتلال، تعود وتطمئن إلى أماكنها عند حدوث الفتح والنصر.
|
|
الدلالة: يعبر هذا التصوير البديع عن حالة الأمن والاطمئنان التي غمرت الأمة بعد الانتصار.
|