- المديح:
ازدهر شعر المديح كثيرًا في العصر العباسي، لعدة أسباب، منها:
|
1- رغبة الخلفاء في المديح وعطاؤهم السخي للشعراء. |
|
3- الشهرة التي يجلبها لهم هذا النوع من الشعر. |
س
|
2- اتخاذ كثير من الشعراء الشعر كمهنة للكسب. |
ولذلك أصبح المدح هو المجال الأساسي للشعراء، سواء كانوا صادقين أم كاذبين، حتى إن بعضهم خصص شعره لاستجداء الخلفاء والقادة، أو جاب الأماكن بحثًا عن أمير يمدحه طمعًا في الغنى أو الشهرة.
وبسبب تشابه مضامين المدح، أصبحت المنافسة بين الشعراء تكمن في قدرتهم الفنية على صياغة المعاني المألوفة بأسلوب شعري فريد ومبتكر، كما فعل البحتري في مدحه للمتوكل.
تَحَسَّنَتِ الدُّنْيا بِعَدْلِك فاغْتَدَتْ وآفاقُها بِيضٌ وأكْنَافُها خُضْرُ
هنيئًا لأهلِ الشّامِ أنَّكَ سَائِرٌ إليْهم مَسِيرَ الشّمْسِ يتْبَعُها القَطْرُ
2- شعر الزهد:
انتشر تيار الزهد والتقوى في العصر العباسي، حيث هرب الناس من فتن الحياة وكرّسوا حياتهم لطاعة الله، فامتلأت المساجد بالوعاظ والفقهاء. ويُعد أبو العتاهية إمام شعر الزهد في هذا العصر، إذ يعكس شعره تجربة زهد حقيقية وصادقة عاشها، فجاء شعره سجلًا لرحلة حياته كلها.
( أحفظ)
إِلَهي لا تُعَذِّبني فَإِنّي مُقِرٌّ بِالَّذي قَد كانَ مِنّي
وَما لي حيلَةٌ إِلّا رَجائي وَعَفوُكَ إِن عَفَوتَ وَحُسنُ ظَنّي
يَظُنُّ الناسُ بي خَيرًا وَإِنّي لَشَرُّ الناسِ إِن لَم تَعفُ عَنّي
واللافتُ أنّ شعراءَ اللهو والمجون ومَنْ وراءَهم من شعراءِ الخمر قد نظموا في الزهد؛ إذ نجد أشعار زهد وتوبة وتضرُّع عند أبي نواس وبشّار بن برد وابن الرومي، وهنا لنا أن نَسألَ أكانَ زهدُ هؤلاءِ نابعًا من توبةٍ صادقةٍ وهجرِ للحياة الفاسدة أم هو تقادُمٌ في السنّ وفواتُ العمر أم هو اتقّاءٌ لتوعُّد الخلفاء؟ لعلّ القصائدَ الصادقةَ ذاتَ البوح الأمين تكشفُ صدقَ هؤلاءِ الشعراء. ولنتأمل تلك المناجاة التي رسَمها أبو نواس بقوله:
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
3- شعر الحكمة:
يُعدّ العصر العباسي عصر الحكمة، مع الإقرار بجذورها القديمة في الشعر والنثر العربي (الجاهلي والإسلامي، والخطابة، والأمثال).وقد ساهمت الصبغة الدينية التي واكبت استقرار الدولة وتطور المجتمع في انتشار الحكمة في الأدب العباسي، ومن أبرز أمثلتها الحكمة ذات الدافع الديني، كأشعار أبي العتاهية والإمام الشافعي.وممّا زاد من انتشار هذه الحِكم الدينية هو ظهورها كردّ فعل على مظاهر الترف والملذات، فكانت حاجة ضرورية لرد هذه الفتن وتثبيت النفس على النقاء والعفة.
وللفلسفة اليونانية أيضًا دور في انتشار الحكمة العباسية وتزويدها بالمعاني المقنعة؛ فقد أقبل عليها الشعراء والأدباء العباسيون ودرسوها وتأثروا بها، مما زاد تعلقهم بالحكمة وطبعها بصبغة فلسفية ومنطقية علمية.ويُعد المتنبي والمعري أبرز الأمثلة على هذا التأثر.
وقد بلغت الحكمة ذروتها عند المتنبي حتى وُصف بالحكيم، ولشدة تقصُّد الشعراء للحكمة، قيل في الموازنة إن أبا تمام والمتنبي "حكيمان" وإن "الشاعر" هو البحتري، لكثرة الحكمة في شعرهما.
غير أن هذا التوجه الفلسفي المنطقي لم يَرُقْ لبعض الشعراء كالبحتري، الذين أرادوا الحفاظ على أصالة الهوية الشعرية العربية بعيداً عن الفلسفة والاستدلال، مفضلين عليه التعبير الفني. يقول البحتريّ في تفضيل الشعر المبنيّ على التعبير الفنيّ لا الفلسفة والمنطق:
كَلَّفتُمونا حُدودَ مَنطِقِكُمْ والشِّعرُ يُغني عن صِدقِهِ كَذِبُه
ومن الأمثلة على شعر الحكمة أنّ أبا تمّام حين قدّم حكمةً في ظهور فضل المحسودِ على يدِ الحاسد ضرب لذلك مثلًا اشتعال النار فيما جاورت وإعلانها بذلك طيب عرف العود:
وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ طُويَتْ أتاحَ لَها لسانَ حَسودِ
لولا اشتعالُ النّارِ فيما جاوَرَتْ ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرْف العُودِ
4- رثاء المدن:
ظهرت ضروبٌ جديدةٌ في الرثاءِ لم تكنْ معروفةً من قبلُ، ومن هذه الضروبِ ظاهرةُ رثاءِ المدن حينَ تنزلُ بها كوارثُ الدمارِ والنهب والحرق. ومن الجليّ أنّ رثاءً المدن يمثلُ استجابةً عاطفيّةً صادقةً من الشاعرِ لمدينتِه أو مسقطِ رأسِه أو المدينةِ التي تعلّق بها نتيجةَ ضربين من الكوارث:
ßكوارثِ الطبيعة؛ إذ يصيبُ المدينةَ الخرابُ بعد زلزالٍ أو سيولٍ جارفِةٍ أو مجاعةٍ أو قَحْط، فيهبُّ الشاعر يرثي مدينته.
ßكوارثَ بشريّة؛ إذ يصيبُ المدينةَ القتلُ والتدميرُ نتيجةَ حروب أو فِتَن أو ثَوْرات.
من أجمل قصائد رثاء المدن رثائيّة ابنِ الروميِّ البصرةَ حينَ عاثَ الزِّنْجُ بها فسادًا وقتلًا ودمارا؛ فقد هجمَ عليُّ بنُ محمّدٍ الوَرزَنِينيّ الشهير بصاحبُ الزنج بجموعه على البصرةِ فنهبَ وسلب وحرقها وفتكَ بأهلها، يقول ابن الروميّ في رثاء البصرة:
ذادَ عن مُقْلَتِي لذيذُ المَنَامِ شُغْلُها عنْه بالدّموعِ السِّجَامِ
أيُّ نومٍ منْ بعدِ ما حلَّ بالبَصْـ رَةِ ما حلَّ من هَنَاتٍ عظامِ
5- شعر الحرب:
تطور شعر الحماسة والفروسية الذي كان يركز على الشجاعة ووصف المعارك في العصر العباسي، حيث تعمّق الشعراء في التفاصيل الجزئية مُبرزين قدرتهم الوصفية. ونتيجة للاعتزاز بالبطولات والانتصارات ظهر نوع شعري جديد هو "شعر الحرب" أو "الحربيّات" وهي قصائدُ أو مقطوعاتٌ شعريّةٌ تسلِّط الضّوءَ على الحربِ والمعركة وترسمُ تفاصيلَها، وتنيرُ البطولةَ والأحداثَ من معاركَ بريَّةٍ أو بحْريّة، وتصفُ الوصفَ الدقيقَ لأدواتِها، وتعلنُ الانتشاءَ بالنصر.
وتُعد قصائد الحرب في العصر العباسي وثائق تاريخية مهمة، حيث يتتبع فيها الشاعر أدق تفاصيل المعركة، بدءًا من أجواء ما قبل القتال واستعداد الجيوش، ورصد أعدادها وتحركاتها، وكشف أسلحتها وعتادها، ويضيء الشاعر ساحة المعركة بتعبير شعري يمزج بين الصدق الموضوعي والتاريخي من جهة، والمبالغة الفنية الأدبية من جهة أخرى.
وتُعد المعارك البحرية من الموضوعات التي برع الشعراء العباسيون في وصفها، حيث يصف الشاعر الأسطول الحربي ومجريات المعركة، ناقلًا حماسة الجيش وشجاعته في مواجهة العدو والبحر. ويُستشهد على ذلك بوصف البحتري لمعركة بحرية مدح فيها أحمد بن دينار الذي غزا الروم بالمراكب.
غَدوْتُ على المَيْمونِ صُبحًا وإِنَّما غدا المركبُ الميمونُ تحتَ المظفَّرِ
وَحَولكَ رَكّابونَ للهولِ عاقَروا كؤوسَ الرَّدى من دارِعِينَ وحُسَّرِ