تأثّر الشّاعر الجاهليّ ببيئته وواقعه تأثيرًا عميقًا شمل حياته ونفسيته وأدبه، وهذا التّأثير ألهب عواطفه وأيقظ مشاعره، فانطلق لسانه الشّعري معبّرًا بصدق عن واقع الحياة، فلم يترك غرضًا شعريًا كالغزل، أو الرّثاء، أو المدح، أو الوصف، أو الهجاء إلّا وطَرَقه. ومن أبرز تلكَ الأغراض:
1- الغزل :
عُدّ الغزل غرضًا شعريًّا رئيسًا وكثيرًا ما استخدمه الشّعراء كمقدمة فنّيّة وعاطفيّة (افتتاحيّة) لقصائدهم. تعمل هذه المقدمة على تهيئة الشّاعر والمتلقي نفسيًا، وتهدف إلى التّأثير في السّامع وكسب ودّ الممدوح.
ومن أبرز تقاليد القصيدة الجاهليّة البدء بـ "الوقوف على الأطلال"، حيث يبكي الشّاعر على ديار المحبوبة الّتي هُجرت وتحوّلت إلى خراب، مستحضرًا الذّكريات الّتي تثيرها هذه الرّسوم. يقول امرؤ القيس:
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فَحَومَلِ
2- الفخر :
الفخر هو التّغنّي بالأمجاد، ويكون عادةً بادّعاء أشياءَ للنّفس أو للقبيلة ليست في متناول النّاس كلّهم، وكان الفخر عند الجاهليين يقوم على التّغنّي بالبطولة والشّهامة، وكثرة الحروب، وشنّ الغارات، والنّصر والغلبة، والقوّة، والبأس، والعدد، والخيل، والإبل، والسّلاح، وإثارة الفزع في نفوس الأعداء. وكان فخرُهم يدور في فلك الأخلاق الحميدةِ والفضائل والمكارم للقبيلة والفرد، يقول الحَادِرَةُ الذُبْيَانيّ مفتخرًا بقومه، مصوّرًا إياهم أوفياءَ أعفّاء ليس غايتهم الطّمع في الغنائم، حريصين على الأصل والنّسب، شجعانًا تقودهم الحماسةُ في المعركة:
أَسُمَيَّ وَيحَكِ هَلْ سَمعْتِ بِغَدْرةٍ رُفعُ اللّواءُ لنا بِها في مَجمعِ
إنَّا نَعِفُّ فَلا نُريبُ حَليفَنا وَنَكُفُّ شُحَّ نُفوسِنا في المَطْمعِ
ونَقي بآمِنِ مالِنَا أَحسابَنا ونَجُرُّ في الهَيْجا الرِّماحَ ونَدَّعي ونَدَّعي
والفخر نوعان: ذاتيّ، وقَبَليّ، وكان الفخرُ القَبَليّ مُقَدَّمًا على الفخر الذاتي. يقول: عمرو بن كلثوم وهو يَفخرُ بانتصار قومه على عدوِّهم:
أبا هِندٍ، فَلا تَعْجَلْ عَلَينا وأَنْظِرْنا نُخَبِّرُكَ اليَقينا
بِأنّا نُورِدُ الرّاياتِ بيضًا ونُصدرُهُنَّ حُمْرًا قَدْ روِينا
أمّا معلّقة طَرفة ونصوص عنترة العبسي فهي تميلُ للفخر الذاتي. يقول عنترة:
حَكِّم سُيوفَكَ في رِقابِ العُذَّلِ وَإِذا نَزَلتَ بِدارِ ذُلٍّ فَاِرحَلِ
إِن كنتُ في عَدَدِ العَبيدِ فَهِمَّتي فَوقَ الثُرَيّا وَالسِماكِ الأَعزَلِ
أَو أَنكَرَت فُرسانُ عَبسٍ نِسبَتي فَسِنانُ رُمحي وَالحُسامُ يُقِرُّ لي
3- الرّثاء
والرّثاء هوالبكاء على الميّت والثّناءُ عليه ومدحه وتعدادُ خصاله الحميدة، ويتّسم بصدق العاطفة؛ لما فيه من تعبير عن الحزن والفقد. وقصيدة الرّثاء تقوم على ثلاثة محاور:
ß النَّدب: وهو بكاء الأهل والأقارب والأحبة عند موتهم.
ß التّأبين: وهو الثّناء على الميّت وذكر محاسنه وأفضاله.
ß العزاء: وهو القناعة بأنّ الموت حق وأنّه نهاية كل حيّ وأنه مصيبنا جميعًا.
وقد كانوا يرْثُون أنفسهم إذا ما أحسّوا بدنوّ الأجل، وهو ما يعرف برثاء النّفس كقصيدة بِشْر بن أبي خازِم الأسديّ لمّا أدرك أنّه ميت لا محالة، فخاطب ابنته عُمَيْرَة لتبكي حين تعلم أنّ أباها في قبر بعيد وهي الّتي كانت تنتظر عودته منتصرًا.
أَسائِلَةٌ عُمَيرةُ عَن أبيها خِلالَ الجَيشِ تَعتَرِفُ الرِّكابا
تُؤَمِّلُ أنْ أؤوبَ لها بِنَهْبٍ وَلَمْ تَعْلَم بِأنَّ السَّهْمَ صابا
رَهينَ بِلى، وكلُّ فَتًى سَيَبْلى فَأَذري الدَّمْعَ وانتَحِبي انتِحابا
أما رثاء الآخر فقد كان الشّعراء والشّاعرات يرثون أهلهم وأحبتهم وأبطالهم، ويمجِّدون خِلالَهم، ويصفون مناقبهم الّتي فقدتها القبيلة فيهم كالشّجاعة والعفّة والعدل وغيرها، وكانت النّساءُ يبالغنَ في طقوس الرثاء، ومنه رثاء الخنساء أخاها صخرًا:
قذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ أمْ ذرفَتْ إذْ خلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَت فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ
وإنّ صَخراً لَحامينا وسيّدُنا وإنّ صَخْرًا إذا نَشْتو لَمِنحارُ
حَمّال ألوِيَةٍ هَبّاطُ أودِيَةٍ شَهّادُ أنْدِيَةٍ للجَيشِ جَرّارُ
4- المديح :
المديح: هو الثّناءُ والإطراءُ على الممدوح، إذ يُبدي الشّاعر إعجابه بالممدوح.
وكان الشّعراء كثيرًا ما يمدحون القبيلة الّتي يجدون فيها كرم الجوار فيشيدون بعِزّتها وإبائها وشجاعة أبنائها وإكرام الضّيف ورعاية حقوق الجوار، وهي قيم مهمّة في ظلّ العيش تحت مظلّة القبيلة، ويصل الأمر في أواخر العصر الجاهليّ أن يتخذ الشّعراء المديحَ وسيلةً إلى الكسب، كما وردنا من أخبارٍ عن وفود الشّعراء إلى ملوك المناذرة والغساسنة، يمدحونهم وينالون عطاياهم، واشتهر بذلك:
الأعشى / النّابغة / حسّان بن ثابت
ومن ذلك مدح الأعشى هوذة بن علي سيّد بني حنيفة:
إلى هَوذَةَ الوَهَّابِ أَهدَيتُ مَدحَتي أُرَجّي نَوالًا فاضِلًا مِن عَطائِكا
تَجانَفُ عَن جُلِّ اليَمامَةِ ناقَتي وَما قَصَدَت مِن أَهلِها لِسِوائِكا
أَلَمَّت بِأقوامٍ فَعافَت حِياضَهُم قَلوصِي وكانَ الشَرْبُ مِنها بِمائِكا
5- الوصف :
استعان الشّعراء بالوصف ليرسموا حياتهم وما فيها من مقومات وعناصر. ومن الجليّ أنّ الشّاعر الجاهليّ قد أحاط في وصفه جميع ظواهر البيئة الّتي كان يعيش فيها، فوصف الطّبيعة الحيّة والجامدة والسّاكنة والمتحرّكة، وصوّر الصّحراء وما فيها من جماد وحيوان وما يعتريها من رياح وسحب وأمطار، وغير ذلك، بحيث يمكن القولُ إنّ الشّاعر الجاهليّ قد صوّر البيئة العربيّة تصويرًا فنّيًّا استوعب فيه جميع ظواهر الحياة في ذلك العصر، ولم يقف الشّاعر الجاهليّ عند المظهر العام للحياة، بل رسم بكلماته التّفاصيل الدّقيقة للطّبيعة ومظاهرها وعناصرها، يقول زهير بن أبي سُلْمَى يصف الغيث وقد أعاد للأرض خضرتها:
وَغيثٍ مِنَ الوَسْميِّ حُوٍّ تِلاعُه أجابَتْ روابيه النّجا وهواطِلُهْ
إن الوصف الجاهليّ كان أقرب إلى الواقعيّة التّسجيليّة يصف ويصوِّر ويسجّل الواقع المرئيّ، ولم يكن يبتغي مطابقة الواقع بصورة شعريّةٍ طبق الأصل، إنّه كان وصفًا واقعيًّا أدبيًّا يضفي الشّاعر عليه لمساتِه الشّعريّةَ الفنية ورؤيتَه الخاصّة الّتي تحاول تقديم تصويرٍ فنيٍّ للواقع بقلم الشّاعر ورؤيته الفنّيّة.
النّاقة في وصف الجاهليين:
أكثر الشّاعر الجاهليّ من وصف النّاقة في مسيرة الرّحلة وأسقطوا عليها مشاعرهم، فالنّاقة أقدر على التّحمل وقطع المسافات، ولها خبرة في معرفة النّجاة من المهالك والضّياع، وهي محتاجة إلى أن تقطع الرّحلة سريعًا وفي أمان لأنّ لها صغارًا، ولا ننسى أنّها تُمدّ المسافر بما يحتاج إليه إن انقطع الماء وأوشك أن يموت. وقد أبدع الشّعراء في وصفها، وأسقطوا عليها مشاعرهم؛ يقول طَرَفَة بن العبد يصف ناقته:
وَإِنّي لَأمضي الهَمَّ عِندَ اِحتِضارِهِ بِهَوجاءَ مِرقالٍ تَروحُ وَتَغتَدي
تَلاقَى، وَأَحيانًا تَبينُ، كَأَنَّها بَنائِقُ غُرٌّ في قَميصٍ مُقَدَّدِ
حيوانات أخرى في وصفهم:
أبدع الجاهليون في تصوير حمار الوحش، وأفردوا حيّزًا لوصف الذّئب، وأبدعوا في ربطه بالرّحلة والظّلمة والهواجس النّفسيّة للشّاعر، ووصفوا الضّباع، والنّسور، والغربان، والوعول، والضَبّ، والطّير، والعُقاب، والقطا.
كذلك وصفوا الخيل متتبعين حركاتها كلها. يقول امرؤ القيس:
مِكرٍّ مِفرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا كَجُلمودِ صَخرٍ حطَّهُ السّيلُ من عَلِ