عربي مادة الأدب فصل أول

الثاني عشر خطة جديدة

icon

 

الموروث الشعري ليس جامدًا، بل هو قابل للتغيير؛ فالشعراء إما أن يختاروا التجديد، فيُعدّلوا في بنية القصيدة وأسلوبها، أو أن يبقوا مقلّدين لسابقيهم. وقد برز هذا جليًا في الشعر العباسي الذي انقسم إلى تيارين:

ßتيار تقليدي: حافظ على شكل القصيدة التراثية وعمودها الفني.

ßتيار تجديدي: حاول مواكبة العصر والتعبير عن شخصية الشاعر وخصوصيته.

?تيار المحافظة والتقليد وتيّار التجديد:

ظهر في العصر العباسي اتجاهان شعريّان يختلفان أشدّ الاختلاف:

1- الاتجاه التقليدي:

هو تيار شعري سار أصحابه على نهج القدماء في نظم الشعر وموضوعاته (كالمديح والرثاء، والفخر) محاكين أشعار الجاهليين والإسلاميين. ولم يكن هذا التقليد أعمى، بل استند إلى عدة أسباب، وهي:

  1. إيمانهم بأن الشعر القديم هو الأفضل فنيًا وتعبيرًا.
  2. الرغبة في الحفاظ على التراث الشعري.
  3. تجنب بعض الشعراء المغامرة بابتكار أساليب جديدة قد تفشل.
  4. مراعاة ذوق الجمهور والـمَمدوحين الذين فضلوا الأسلوب القديم.

ورغم اتباعهم للقصيدة التراثية، إلّا أنّهم لم يكونوا مجرد نُسّاخ، بل أضافوا لشعرهم من شخصياتهم، فجاءت قصائدهم تقليدية مُجدَّدة. ويُعد البُحتري من أهم أعلام هذا الاتجاه، وهو الذي فضّله أنصار القديم على "أبي تَمّام، زعيم تيار التحديث.

2- الاتجاه التجديدي:

 يمثله الشعراء الذين أرادوا للشعر أن يعبّر عن شخصيتهم وعصرهم وحداثتهم. وقد ثار هؤلاء الشعراء على التقاليد الموروثة وعمود الشعر العربي، مُصمّمين على

إعادة تشكيل القصيدة بثوبٍ تجديديّ وفنيّاتٍ مُستحدثة لم تكن عند القدماء، لتكون أليقَ بهم وبعصرهم، وقد هدفوا بذلك إلى ابتكار قصيدة جديدة ومُغايرة كليًا في بنائها الفني والتعبيري والتصويري، وفي ألفاظها وموضوعاتها وأساليبها، وصولًا إلى الأوزان والقوافي. وكان من أبرز  دوافع التجديد:

من أبرز أسباب التجديد هو ابتعاد الحياة عن مظاهر البداوة، والارتحال، وقسوة العيش. فقد انتقل الناس إلى حياة جديدة تتسم بالعمران، والتجارة، والرغد، والبساتين، وهذا التغيُّر دفع الشاعر إلى تجديد شكل القصيدة ومضمونها لتناسب هذا الواقع الجديد.

فمن البديهي أن تتغير الحياة الاجتماعية بعد الاختلاط العرقي والانفتاح الحضاري والتقدّم المدني والعلمي.

كان هذا الهاجس يدفع الشاعر للحرص على أن يعكس شعره خصوصيته وخصوصية عصره. كما سعى الشاعر باستمرار ليجعل شعره مُغايرًا لشعر الآخرين، رافضًا الوقوف عند تقاليد مَن سبقوه، وذلك ليتجنب أن يكون مُقلّدًا، أو تابعًا، أو أقلَّ منهم شأنًا وشاعرية.

? الثورة على المقدمة الطللية:

حدثت خصومة شديدة في العصر العباسي حول المقدمة الطللية ليظهر ثلاثة اتجاهات:

1) الاتجاه المحافظ التقليدي: أصرّ شعراء هذا الاتجاه على أن تظل المقدمة الطللية واجهة للقصيدة، سائرين فيها على نهج الشعراء السابقين، وخصوصًا في افتتاح قصائد المدح. ويعود هذا الإصرار لسببين رئيسين:

ßرغبة الممدوحين من خلفاء وأمراء وقادة في أن يُمدَحوا بالطريقة التقليدية التي مُدِح بها مَن سبقهم، ورفضهم تغيير معالم قصيدة المدح.

ßجاذبية المقدمة الطللية لدى الجمهور، الذي اعتادها واعتبرها مُفتَتَحًا استهلاليًا جميلًا ومُتقنًا للقصيدة.

 

2) الاتجاه الرافض: وقد دعا شعراءُ عباسيّون إلى التخلص من المقدمة الطلليّة والدخول إلى المقصود فورًا دونَ التمهيد بشيء من تلك المقدمات.

 

3) الاتجاه المجدّد للمقدمة الطلليّة: تبنّى شعراء مجدّدون استبدال المقدمة الطللية بأخرى. ورغم دعوتهم للحفاظ على وجود افتتاحية (مقدمة أو استهلال) للقصيدة، إلّا أنهم اشترطوا أن تكون هذه المقدمة البديلة أليق بالعصر والحياة والأحداث، ومُسايِرةً للنهضة الحديثة.ومن هؤلاء المجددين مَن رأى عصره عصرَ مدنيّة واستقرار وطبيعة غنّاء، وليس عصر ارتحال وصحراء، فدعا إلى استبدال المقدمة الطللية بـ "المقدمة الحَضَريّة" أو "الطّبيعيّة" وقد افتتح أبو تمّام الطائيّ قصيدة له في مدح المعتصم بمقدمة في وصف الربيع جاء فيها:

أحفظ أول بيت 

رَقَّت حَواشي الدَهرُ فَهيَ تَمَرمَرُ                        وَغَدا الثَرى في حَليِهِ يَتَكَسَّرُ

يا صاحِبَيَّ تَقَصَّيا نَظَرَيكُما                                تَرَيا وُجوهَ الأَرضِ كَيفَ تَصَوَّرُ

تَرَيا نَهارًا مُشمِسًا قَد شابَهُ                           زَهرُ الرُّبا فَكَأَنَّما هُوَ مُقمِرُ

? التجديد في الموضوعات والأغراض:

التجديد الذي قام به الشعراء شمل أمرين:        

أ- تغيير وتطوير المواضيع الموجودة أصلًا في القصائد التقليدية.

ب- إضافة مواضيع جديدة كليًّا لم يتحدث عنها أحد قبلهم.

ومن ذلك التجديد الكلي والجزئي:

1- شعر الوصف والمقطوعات الوصفية: وفيه وجهان للتجديد:

أ- في نظم المقطوعات الوصفية:

قديماً (في القصيدة الموضوعيّة): كان الوصف يُعد جزءًا من أجزاء القصيدة، وليس هو الهدف الأساسي، لكن حديثاً (عند الشعراء المجدّدين) صُيّرَ الوصف ليصبح غرضًا شعريًا خالصًا (أي هو الهدف الأساسي)، وأصبح له نص مستقل، وهذا النص غالبًا ما يكون مقطوعات قصيرة.يقول الصَّنوبريّ أحمد بن محمد يصف نهر قُوَيْق (نهر حلب) وقد قلّ ماؤه صيفًا:

قويقُ إذا شمَّ ريحَ الشِّتا       ءِأظهرَ تيهاً وكبراً عَجيبا

وناسبَ دجلةَ والنيلَ والـ        ـفراتَ بهاءً وحسناً وَطيبا

وإنْ أقبلَ الصَيفُ أبْصَرْتَهُ      ذليلاً حقيراً حزيناً كئيبا

ب- تطرّق الشعراء العباسيينَ لمضامينَ جديدةٍ من واقع عصرهم وحياتهم، ومن ذلك قول البحتري يصف بركة المتوكّل:

يا مَن رأى البِركةَ الحسناءَ رُؤيَتَها             والآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغَانيها

تَنْصَبُّ فيها وُفودُ الماءِ مُعْجَلَةً             كالخَيلِ خارِجةً مِنْ حَبْلِ مُجريها

2- الغزل:

عرف العباسيون الغزل العذري كالعباس بن الأحنف، كذلك عرفوا والصريح وغيره، لكن الشعراء المجددين دمجوا بين الغزل العفيف والحسي، فابتكروا لونًا جديدًا (بين بين) يجمع بين العفة والتصريح، والإخلاص واللهو، ليعكسوا بذلك تناقضات واقع حياتهم المدنية. يقول الشريف الرضيّ:

 

يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ                  لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ

أَنتِ النَعيمُ لِقَلبي وَالعَذابُ لَهُ               فَما أَمَرَّكِ في قَلبي وَأَحلاكِ

هامَت بِكِ العَينُ لَم تَتبَع سِواكِ هَوًى       مَن عَلَّمَ العَيْنَ أَنَّ القَلبَ يَهواكِ

? الإكثار من ظاهرة البديع:

أكثر الشعراء العبّاسيّون من تناولِ ظاهرةِ البديعِ التي كانت تردُ عند القدماءِ عَفْوَ الخاطرِ، على خلافِ المُحدَثين الذين قصدوها قصدًا وبالغوا في توظيفها حدَّ الإسرافِ والإغراق. وقد رأى بعضُ الشعراءِ المجدّدين في المحسناتِ البديعية طريقًا للتجديدِ؛ لإضْفاءِ تَزْيين لفظيٍّ يعطي القصيدةَ جماليّة ومُغايَرَةً ومُناسَبَةً لعصرهم الذي يهتمّ بالظاهِرِ والزّينةِ على حساب المعنى والجوهر، يقول الصَّنوبريّ:

         ما الدهرُ إلّا الربيعُ المُستنيرُ إذا                جاءَ الرّبيعُ أتاكَ النَّوْرُ والنُّورُ

? التجديد في المعاني:

سعى الشعراء العباسيون للتجديد في المعاني كما جددوا في الألفاظ، وقد تنافسوا في ابتكار معانٍ جديدة، لاعتقادهم أن التجديد المعنوي أصعب من اللفظي. ولجأ أقدرهم فنياً وخبرةً إلى توليد معانٍ شعرية غير مسبوقة. قال بشَار بنُ بُرْدٍ في بَيانِ أَنَّ الأُذُنَ تَعشَقُ:

يَا قَوْمُ أذْنِي لِبَعْضِ الحَيِّ عَاشِقَةٌ                          وَالأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا

قَالَتْ بمَن لَا تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهَا                            الأُذْنُ كَالعَيْنِ تُوفِي القَلْبَ مَا كَانَا

وقد كانَ بشَّارٌ مولَعًا بالتجديدِ، ومِنَ الطَُرَفِ أَنَّ بَشَّارًا ظَلَّ عاكِفًا على محاولةِ تَوليدِ مَعنًى جَديدٍ إلى أنْ أتاهُ الخاطِرُ فقالَ:

مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ                   وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الفَاتِكُ اللهجُ

 

فلم يَشِعْ بينَ الناسِ ولم يَدُرْ على أَلْسِنَتِهم، فأَخَذَهُ سَلْمُ بْنُ عَمْرٍو المُلَقَّبُ بِسَلْم الخَاسِرِ–وكانَ تلميذهُ– فقالَ:

أحفظ

 

مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ هَمًّا                           وَفَازَ بِاللّذَّةِ الجَسُورُ

 

 

فتَناشَدَ النَّاسُ بَيْتَ سَلْمٍ لِجَزَالَتِهِ وخِفَّتِهِ على اللِّسانِ وتَرَكوا بَيْتَ بَشَّارٍ، فغَضِبَ بشار وطردَ تلميذَهُ.

 

 ? التجديد في الأوزان والقوافي:

شمل التجديد العباسي الإيقاع الشعري (الخارجي والداخلي)، فجددوا بجرأة في الأوزان العروضية، إيماناً بسيطرة الشاعر على الإيقاع، وفي ذلك يقول أبو العتاهية: "أنا أكبر من العروض"، ومن مظاهر ذلك، إكثارهم من استخدام الأوزان الخفيفة والمجزوءة.

 

 

Jo Academy Logo