الروميات
للروميات معنيين اصطلاحيين:
المعنى العامُّ
هي القصائدُ الشعريَّةُ التي قِيلت في العصرِ العبّاسيّ خاصَّة ودارت حولَ الصّراعِ مع الروم، ومنها القصائدُ التي دارَت حولَ مديحِ الخلفاءِ والقادةِ في حروبِهم ومعاركِهم ضدَّ الروم (الدولةِ البيزنطية) على الثغور خاصّة، أو تلك الرثائيّات لمن حمَوا الثغورَ وسقطوا في المعارك ضدّ البيزنطيين، أو تلك الّتي صوّرت الحروبَ والمعاركَ البرّيّة والبحريّة التي اختصت بالقتالِ مع الروم وتُسمّى (الرُّوميّات الحربيّة).
المعنى الخاصُّ
هي القصائدُ التي كتبَها أبو فِرَاسِ الحَمْدَانيّ في أثناء أسرِه لدى الروم، وتُسمَّى (رُوميّات أبي فراس) أو (الأسْريّات).
1- الروميات الحربية:
برزت 'الروميّات الحربيّة' كأحد المعالم الأدبية المميزة في العصر العباسي، إذ كانت بمثابة سجل فني يصف ببراعة ملامح الشجاعة، والبذل، والظفر. ولم تكتفِ هذه القصائد بنقل وقائع الأحداث بأسلوب مبدع، بل تجاوزت ذلك لتكون أداة لتمجيد الخلفاء والقادة، والتعبير الصادق عن الحزن على الشهداء، والاحتفاء باستعادة الثغور. وبذلك، أسهمت في ترسيخ قيم البسالة وشحذ الهمم لخدمة الدولة والمجتمع.
2-قصيدة فتح عمورية:
يقول أبو تمام في فتح عموريّة:
(أحفظ)السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
يا يَومَ وَقعَةِ عَمّورِيَّةَ اِنصَرَفَت عنكَ المُنى حُفَّلاً مَعسولَةَ الحَلَبِ
(أحفظ)تَدبيرُ مُعتَصِمٍ بِاللَهِ مُنتَقِمٍ لِلَّهِ مُرتَقِبٍ في اللَهِ مُرتَغِبِ
رَمى بِكَ اللَهُ بُرجَيها فَهَدَّمَها وَلَو رَمى بِكَ غَيرُ اللَهِ لَم يُصِبِ

3- روميات أبي فراس: فارس في ظلمة السجن:
يستطيع الشعر التعبير عن الكآبة كما يعبّر عن الفرح، لكن التجربة الشعورية في «روميّات الأسر» هي أصدق وأقرب للوجدان من «روميّات الحرب»، التي قد تُعَدُّ أحياناً نوعاً من التكسب. تتميز «روميّات الأسر» بالصدق، ففيها يواجه الشاعر وحيداً صراع العزة والذل، فيلجأ إلى الشعر كطاقة أملٍ أخيرةٍ تُسانده وتُخلّصه من قيد الذل والانكسار.
يقول أبو فراس في روميته (الرائية):
(أحفظ) أَرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيمَتُكَ الصَّبْرُ أَمَا لِلْهَوَى نَهْيٌ عَلَيْكَ وَلا أَمْرُ
بَلَى أَنَا مُشْتاقٌ وعِنْدِيَ لَوْعَةٌ ولَكِنَّ مِثْلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ
إِذا اللَّيْلُ أَضْواني بَسَطْتُ يَدَ الهَوَى وأَذْلَلْتُ دَمْعًا مِنْ خَلائِقِهِ الكِبْرُ
مُعَلِّلَتي بِالوَصْلِ والْمَوْتُ دونَهُ إِذا مِتُّ ظَمْآنًا فَلا نَزَلَ القَطْرُ!
أَسِرْتُ وَمَا صَحْبي بِعُزْلٍ لَدَى الوَغَى ولا فَرَسي مُهْرٌ وَلا رَبُّهُ غُمْرُ
وقَالَ أُصَيْحابي الفِرارُ أَوِ الرَّدَى فَقُلْتُ هُمَا أَمْرانِ أَحْلاهُما مُرُّ
(أحفظ) سَيَذْكُرُني قَوْمي إِذا جَدَّ جِدُّهُمْ وفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ

التَّحليلُ الفَنِّيُّ:
اسْتَطاعَتْ هَذِهِ القَصيدَةُ أَنْ تُؤَرِّخَ عِزَّةَ الفارسِ العَربيِّ في أَوْجِ انْكِسارِهِ، وإِنْ أَرَدْنا أَنْ نُحْصِيَ مُثَبِّطاتِ الشاعرِ وعَوامِلَ انْكِسارِهِ نَجِدُها كَثيرَةً: وُقوعُهُ في الأَسْرِ أَوَّلًا، وتَخَلّي سيفِ الدولةِ عنهُ وهو ابْنُ عَمِّهِ ومُربيِّهِ، وتَباطُؤُهُ في افْتِدائِهِ ثانيًا، وفِرارُ أَصْحابِهِ وتَرْكُهُ وحيدًا لِيُلاقي مَصيرَهُ المَحْتومَ ثالثًا، وانْكِسارُهُ النَّفْسِيُّ وهو البطلُ المُشْبَعُ بالفُروسيَّةِ والزَّهْوِ بالنَّفْسِ رابعًا. ليس أَبو فراسٍ الحمدانيُّ أَوَّلَ مَنِ استعملَ الحوارَ الدّاخليَّ «المونولوج»، غيرَ أَنَّهُ وُفِّقَ في توظيفِ هذا الحوارِ ليُبَسِّطَ جميعَ المتناقضاتِ أَمامَهُ؛ إِذْ ليسَ ثَمَّةَ مَنْ يُخاطِبُهُ ويُحاوِرُهُ في أَسْرِهِ إِلَّا الشاعرَ نفسَهُ، ليُقَدِّمَ لنا صورَةً يتنازَعُها الضِّدّانِ: العِزَّةُ والذِّلَّةُ. هو عَصِيُّ الدمعِ شِيمَتُهُ أَي طَبيعَتُهُ وخَصْلَتُهُ الصبرُ مع أَنَّهُ محبٌّ مشتاقٌ، لكنَّ هذهِ الصورةَ النهاريَّةَ التي تُظْهِرُهُ عزيزًا أَمامَ سَجَّانِهِ ترتَدُّ صورَةً مُنْكَسِرَةً ذَليلَةً قد أَضواهُ وأَهْزَلَهُ وأَضْعَفَهُ الليلُ في قولِهِ: «إِذا الليلُ أَضواني بَسَطْتُ يَدَ الهوى»؛ في صورةٍ وإِنْ دَلَّتْ على انكشافِ الحقيقةِ فإِنَّها تذكِّرُنا بالذلَّةِ، وذلك الدمعُ الذي كانَ عَصِيًّا نهارًا يَذِلُّ ليلًا فَيَنْهَمِرُ انْهِمارًا.
وتَتَّسِمُ القصيدَةُ بكثرَةِ الصورِ الفنِّيَّةِ المبنيَّةِ على التشخيصِ: يدُ الهوى، دمعًا مِنْ خلائِقِهِ الكِبْرُ، أَو تلكَ التي تَتَّخِذُ اللونَ مَجْراها: أَضواني الليلُ.
التجريدُ
التجريد فنٌّ بلاغيٌّ، ومِنْ أَصنافِهِ أَنْ يُخاطِبَ الإنسانُ نَفْسَهُ كأَنَّهُ يخاطِبُ إِنسانًا آخَرَ، فيبدو أَنَّهُ جَرَّدَ مِنْ نَفْسِهِ إِنسانًا آخَرَ يخاطِبُهُ، وقريبٌ منه ما نعرِفُهُ حديثًا بالحوارِ الدّاخليِّ أَوِ (المونولوج).