الدّرس الثّالث أقرأُ بطلاقةٍ وفهْمٍ
(1.3 ) أقرأُ
بِمَ التَّعلُّلُ لا أهلٌ ولا وَطَنُ
1- بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
التّعلُّل : التّسلية والتّرويح عن النّفس . نديم : صديق .
يقول وهو يشكو الزمان: بأيّ شيء أعلل نفسي وأجعلها تستريح وأنا لا أهل لي، بعيدًا عنهم، ولا وطن لي، وليس لي نديم يصاحبني في الشرب، وكذلك لا كأس لي أي أنه بدون صحبة تسبب له السعادة والمتعة، ولا أحد أسكن إليه وأرتاح عنده.
2- أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَّمَنُ
يطلب من الزمان استقامة الأحوال والزمان، والزمان لا يبلغ هذا من نفسه لأنه ربيع وصيف وشتاء وخريف.
أمامنا إنسان لا يستكين عقب ما حل به من مشاكل وأزمات ،وهو يطلب من الزمن ويعلنها صراحة بأن آماله عريضة، ولا يتنازل عن حقه بالحياة الكريمة السعيدة، وهذا يفيد عدم الاستكانة واستمرارية التحدي.
3- لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ ما دام يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
ما دمتَ حيًّا، أي أن روحك في بدنك فلا تبالِ ولا تهتم بالزمان ومصائبه فإنها تزول ولا تبقى، عشْ مندفعًا إلى الأمام ولا تحسب حسابًا للدهر ومشاكله.
4- فَما يَدومُ سُرورٌ ما سُرِرتَ بِهِ وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
لا سرور دائم، وإنّ الأحزان والانغلاق واليأس لا يمكن أن تُرجع أمرًا فاتك ،فما عليك إلّا تضميد الجراح ومتابعة المسيرة .
5- مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ هَوُوا وَما عَرَفوا الدّنيا وَما فَطِنوا
على الإنسان أن يتبصّر بالأمور ويحسب حساب العراقيل، وليكن سلوكه في الحياة مدروسًا، وليس كما فعل ويفعل المحبّون، هم أحبوا ثم هَووا ولم يحسبوا حسابًا للغدر والغادرين، ولو هم فطنوا لذلك ما أحبُّوا، ولا أضاعوا أيامهم في سبيل من لا يستحق ذلك منهم.
6- تَفنى عُيونُهُمُ دَمعًا وَأَنفُسُهُم في إِثرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
يقول: عشقوا بلا تجربة ورويّة؛ فعيونهم تذوب عَبرة، وأنفسهم تسيل حزنًا على كل قبيح الفعل حسن الوجه .
7- تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم كُلُّ ناجِيَةٍ فَكُلُّ بَينٍ عَلَيَّ اليَومَ مُؤتَمَنُ
النّاجية : النّاقة السريعة.
يقول لأحبابه: متى شئتم الرحيل فارحلوا، فلست أبالي بفراق من بان عنّي بعد أن عرفت قبح أفعالكم وخبث هذا الزمان، ولا أخاف الآن من الفراق، فكل فراق مأمون في حقي.
8- ما في هَوادِجِكُم مِن مُهجَتي عِوَضٌ إِن مُتُّ شَوقًا وَلا فيها لَها ثَمَنُ
الهودج: مركب النساء. المُهجة: الرّوح.
يقول: لستم أهلًا لأن تبذل فيكم الأرواح شوقًا إليكم ومحبة لكم. فلستم تعوضونني روحًا غيرها إذا أتلفتها.
9- يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ
أيها الذي نقل لك خبر وفاتي (كذبًا) ليكن معلومًا لدى الجميع أنّ الناعين سيصلون إلى النهاية، أي إلى الموت.
كأنّه يقول لنا هذه الأسس التي أنتمي إليها، فهو يعيش دون خوف أو اكتراث بالزمن، وهو يعلم أنّ الخلود لا يحصل عليه أحد، ولكنه يعيش ويعيش طالما لم يُنْهِ حياتَهُ الموتُ أو العدم.
10-كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
يقول: كم قد أُخبرتم بموتي وتحقق ذلك عندكم، ثم بان الأمر بخلاف ذلك، فكأني كنتُ ميّتًا ثم خرجت من القبر.
ها هم ينقلون خبر موتي مرّة بعد مرّة، أمّا أنا فكأنني انتفضت من جديد وأرمي بكفني وأقوم من قبري، وهو يعني أن أخبارهم كاذبة، فالموت الذي ينقلون أخباره ليس موتًا حقيقيًّا إنّما هو موت وهمي، ولذلك يحق له أن يسخر؛ لأنّ هذه أمانٍ وليست حقائق.
11-قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمُ جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا
يشير إلى أنّ قومًا نعوه قبل هؤلاء، وأخبروا أنّهم شاهدوا دفنه ثم ماتوا قبل المتنبي.
12- ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ تَجري الرِّياحُ بِما لا تَشتَهي السُّفُنُ
إنّ الإنسان يتمنّى ويستطيع أن يتمنّى، ولكنّ الأمور ليست طيّعَةً له، وربما تفاجئه بكوارث أو بأحداث مؤلمة، وتلك صورة السفينة التي تتجه إلى ناحية، فتهب بها رياح تحوّلها إلى ناحية لا يريدها الرُّبَّان.
هذا التمثيل ناتج عن تجارب بشرية تؤكد بأنّ أمر الحياة لا يقرّره الإنسان بل هو قضاء وقدر.
يقول:إنّ أعدائي يتمنّون موتي ولكنّهم لا يدركون ما يتمنّون.
13-إِنّي أُصاحِبُ حِلْمي وَهوَ بي كَرَمٌ وَلا أُصاحِبُ حِلْمي وَهوَ بي جُبُنُ
يريد أن يعلن سياسة التحدي والاستخفاف بطباع وسلوكيات رذيلة لدى خصومه، ويعلن لهؤلاء الخصوم أنّه أمر مختلف عنهم.
يقول: يرافقني حِلْمي (صفحي وعدلي) عندما أسامح من يؤذيني إذا عُدَّ حِلْمي كرمًا وخُلُقًا نبيلًا، أما إذا كان حِلمي لأنّني جبان، فإنني لا أصاحب هذا الحِلم ولا أعترف به.
14- وَلا أُقيمُ عَلى مالٍ أَذِلُّ بِهِ وَلا أَلَذُّ بِما عِرضي بِهِ دَرِنُ
لا أطلب المال بالذّل، كما أنّني لا أسعد بشيء يلطخ شرفي .
15- سَهِرتُ بَعدَ رَحيلي وَحشَةً لَكُمُ ثُمَّ اِستَمَرَّ مَريري وَارعَوى الوَسَنُ
مريري : المرير: عزيمة وإرادة.
ارعوى: انزجر وارتدع.
الوَسَن: النُّعاس.
يقول: لما فارقتكم سهرت وحشةً لفراقكم، فلما طالت الأيام نسيتكم وتسليت عنكم وعاد النوم إلى عيني .
16-وَإِن بُليتُ بِوُدٍّ مِثلِ وُدِّكُمُ فَإِنَّني بِفِراقٍ مِثلِهِ قَمِنُ
قَمِن : جدير وخليق .
يقول: إن كنت في قوم آخرين فعاملوني معاملتكم فارقتهم كما فارقتكم، وهذا تعريض بكافور، يعني إن بليت منه بودٍّ ضعيف مثل ودِّكم فارقته كما فارقتكم.
17- أَبلى الأَجِلَّةَ مُهري عِندَ غَيرِكُمُ وَبُدِّلَ العُذرُ بِالفُسطاطِ وَالرَّسَنُ
الجِل: مفردها الجِلال، وجمع الجمع: الأجلة، وهو ما يتجلّل به الفرس.
العُذْر: مفردها : عذار، وهو ما كان على خدّ الفرس من اللجام.
الفُسطاط : اسم لمصر.
الرّسَن: الحبل.
يقول: طال مقامي بمصر لإكرام مثواي هناك حتى بُليت جلال فرسي وعذره ورسنه فأبدلت بغيرها. عبّر عن طول المقام ببلى هذه الأشياء .
18-عِندَ الهُمامِ أَبي المِسكِ الَّذي غَرِقَت في جودِهِ مُضَرُ الحَمراءِ وَاليَمَنُ
الهُمام : السّيد عظيم الهمّة .
يقول: أقمتُ عند كافور الذي عمّ جوده جميع العرب مضرّيهم ويمنّيهم.
وإنَّما سميت مضر الحمراء؛ لأن نزار لما مات وتحاكم أولاده ، فأعطى مُضَر الإبل الحُمر، وقيل أعطاه الذهب؛ فسُمِّي مُضَر الحمراء .
19-وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنّي بَعضُ مَوعِدِهِ فَما تَأَخَّرُ آمالي وَلا تَهِنُ
يقول: إن تأخر عني بعض ما وعدني به من الولاية وغيرها، فإن أملي فيه في غاية القوة. وهذا استبطاء وعتاب .
20-هُوَ الوَفِيُّ وَلَكِنّي ذَكَرتُ لَهُ مَوَدَّةً فَهوَ يَبلوها وَيَمتَحِنُ
يقول: هو يفي بما وعد غير أنه يختبر ما ذكرت له من المودة والمحبة، فلهذا يتأخر عني ما وعدني به.
**************************************************************************************************************************
أتعرّفُ الشّاعرَ
أبو الطّيب المتنبّي ( 303 هــ - 354 هـــ ) ( 915 م - 965 م ) .
هو أحمد بن الحسين الجعفي الكنديّ .
شاعر عباسيّ وُلِد في كِندة إحدى مناطق الكوفة بالعراق .
يُعدّ من أعظم شعراء العرب وأكثرهم تمكُّنًا من اللّغة العربيّة ، بقواعدها ومفرداتها وأصول البلاغة فيها .
له مكانة لم تُتحْ لغيره من شعراء العرب بعد الإسلام .
اُشتُهر بحدّة ذكائه ، وظهرت موهبته الشعريّة مبكِّرًا .
عاش أفضل أيّام حياته وأكثرها عطاءً في بلاط سيف الدولة الحمدانيّ في حلب ؛ فكان من مُقرّبيه ، وكان بينهما مودّة واحترام ، وحدثت بينه وبين سيف الدّولة فجوة وسّعها كارهوه وحُسّاده ، وكانوا كُثُرًا في بلاط سيف الدّولة .
===============================================================================
أَتَعَرَّفُ جَوَّ النَّصِّ
نظم المتنبّي هذه القصيدة حين بلغه أنّ قومًا نعوه في مجلس الأمير سيف الدولة بحلب وهو بمصر ؛ فاختلقوا الأوهام بأنّ المتنبّي قد مات ، وأنّ سيف الدولة قد فرح بخبر موته .
وقد كان أن أفسد الوُشاة والحسّاد علاقة المتنبّي بسيف الدولة ، فجفاء الأمير وصدّ عنه ؛ أيقن المتنبّي عندئذ أنّ المقام في بلاط سيف الدولة أصبح مستحيلًا محفوفًا بالمخاطر ؛ فاضطُرّ إلى مغادرة حلب ، ولم يقف منه موقف السّاخط المعادي ، وإنّما كرِه الجوَّ الذي ملأه حُسّاده ومنافسوه من حاشية الأمير.
ارتحل المتنبّي إلى مصر ، حيث رحّب به ملك مصر كافور الإخشيديّ ، وأقام عنده نحو أربع سنين ، وكان يسعى إلى أنْ يُلبّي كافور رغبته في أن يكون واليًا على إحدى المناطق ، لكنّه لم ينلْ ما أراد .
================================================================================