التَّعَلُّمُ الْقَبْلِيُّ
أرسل الله تعالى الرُّسُل والأنبياء عليهم السلام، وأيَّدهم بالمعجزات الدالَّة على صِدْق دعوتهم ورسالتهم.
تنقسم المعجزات إلى قسمين، هما:
- المعجزات المادية المحسوسة المُؤقَّتة، وهي خاصَّة بالقوم الذين أُرسِل فيهم رسول. ومن أمثلتها: عصا سيِّدنا موسى، وناقة سيِّدنا صالح عليهما السلام.
- المعجزة العقلية الخالدة، وهي للناس كافَّةً. ويُقصَد بها القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
أُقارِنُ أُقارِنُ بين معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات الأنبياء السابقين عليهم السلام. |
معجزات السابقين مادية ومؤقتة ومخصوصة بالقوم الذين ظهرت فيهم، ومعجزة القرآن معنوية دائمة وعامة للناس كافة. |
الْفَهْمُ وَالتَّحْليلُ
أيَّد الله تعالى سيِّدنا رسول الله g بعدد من المعجزات، كان أعظمها وأهمُّها القرآن الكريم.
أوَّلًا: مفهوم الإعجاز القرآني
الإعجاز القرآني: هو إثبات عدم قدرة الخَلْق على الإتيان بمثل القرآن الكريم، أو بشيء من مثله، أو إيجاد خلل فيه.
قال تعالى:(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا) (الإسراء: ٨٨).
ثانيًا: مراحل التحدّي بالقرآن الكريم
لمّا ادَّعى المشركون أنَّ القرآن الكريم ليس من عند الله تعالى، وإنَّما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من عنده، تحدّاهم الله تعالى بمعجزة القرآن الكريم على نحوٍ خاصٍّ، وتحدّى الخلق عامَّة بهذه المعجزة. وقد جاء التحدّي بالقرآن الكريم على ثلاث مراحل، هي:
- الإتيان بمثل القرآن الكريم. قال تعالى: أم يقولون تقوّله بل لا يؤمنون*فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) (الطور: 33-34).
- الإتيان بعشر سور مثل القرآن الكريم. قال تعالى:(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) (هود: ١٣).
- الإتيان بسورة واحدة مثل القرآن الكريم. قال تعالى:(وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
ثالثًا: أوجه الإعجاز القرآني
تنوَّعت أوجه إعجاز القرآن الكريم. وهذه أبرزها:
- الإعجاز البياني:
هو دِقَّة القرآن الكريم في نَظْمه وألفاظه بما يظهر بلاغته التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها.
يُعَدُّ الإعجاز البياني أعظم أوجه الإعجاز القرآني.
من صور الإعجاز البياني:
- الدقَّة في استعمال الألفاظ، مثل قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تدخلوا بُيُوتًا غير بيوتكم حَتَّىٰ تستأنسوا وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تَذَكَّرُونَ) (النور: ٢٧)؛ إذ اشتملت هذه الآية الكريمة على إعجاز بياني تمثَّل في استخدام لفظة (تستأنسوا) بدلًا من لفظة (تستأذنوا)؛ لِما تحمله لفظة (الاستئناس) من معنى أوسع، يشمل الاستئذان، والأنس، وإعطاء الأمان لأصحاب البيت، ومنحهم فرصة الاستعداد لاستقبال القادمين؛ فلو جاء التعبير عن ذلك بلفظة (الاستئذان)، ما شمل هذه المعاني كلَّها.
- التقديم والتأخير في ألفاظ الآيات الكريمة، مثل تقديم لفظة (ٱلزَّانِيَةُ) على لفظة ( ٱلزَّانِي) في قوله تعالى: (ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فاجلدوا كُلَّ واحد منهما مِاْئَةَ جلدة) (النور: 2)؛ إذ جاء هذا التقديم لبيان أنَّ للمرأة دورًا عظيمًا في هذه الجريمة التي لا يُمكِن أنْ تتمَّ من دون موافقتها ورضاها. وبالمُقابِل، جاء تقديم لفظة (ٱلسَّارِقُ) على لفظة (ٱلسَّارِقَةُ) في قوله تعالى: (وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فاقطعوا أيديهما جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا) (المائدة: 38)؛ لأنَّ السرقة تحصل من الرجال أكثر من النساء، وتتطلَّب جرأةً وقوَّةً، وهي تتوافر في الرجل أكثر منها في المرأة.
أُبَيِّنُ أَسْتَخْدِمُ الرمز المجاور (QR Code)، وأَرْجِعُ إلى تفسير (التحرير والتنوير) لابن عاشور، ثمَّ أُبَيِّنُ وجه الإعجاز البياني في اختيار جملة (وَلَا تأكلوا) في قوله تعالى: (وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبًا كبيرًا ) (النساء: 2). |
عبّر بالأكل للدلالة على أمرين: أولها أن غالب تصرفات الإنسان بالمال تتعلق بالأكل والشرب، والثاني عبر بالأكل للدلالة على أنّ أموال اليتامى صارت لا تتميز عن أموالهم فقد صارت واحدة. |
- الإعجاز الغيبي:
هو إخبار القرآن الكريم بأمور وأحداث سوف تقع مستقبلًا، ثم وقعت كما أخبر بها القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: (الٓمٓ ١ غُلِبَتِ ٱلرُّومُ ٢ فِيٓ أَدنَى الأرض وَهُم مِّن بعد غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ ٣ فِي بِضعِ سِنِينَۗ لِلَّهِ ٱلأَمرُ مِن قَبلُ وَمِنۢ بَعدُۚ وَيَومَئِذ يَفرَحُ المُؤمِنُونَ) (الروم: 1-4)؛ فقد نزلت هذه الآيات الكريمة بعد انتصار الفُرْس على الروم، وأخبرت أنَّ الروم سينتصرون على الفُرْس بعد بضع سنين. وقد تحقَّق ذلك كما جاء في الآيات الكريمة.
- الإعجاز التشريعي:
هو ما جاء في القرآن الكريم من تشريعات قادرة على تنظيم حياة الناس، والارتقاء بهم في مختلف مناحي الحياة على نحو يفوق ما عرفته البشرية، وعجزت عنه في جميع أزمانها.
من الأمثلة على الإعجاز التشريعي، ما جاء في تشريع القصاص. وقد كان التشريع القرآني في هذه المسألة كاملًا شافيًا؛ إذ قال تعالى: (وَلَكُم فِي ٱلقِصَاصِ حَيَوٰة يَٰٓأُوْلِي ٱلألبَٰبِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ) (البقرة: 179).
ومن ثَمَّ أدّى هذا التشريع إلى تحقيق مقاصد عِدَّة، مثل منع انتشار القتل والأخذ بالثأر بين الناس؛ ما يحفظ الدماء، ويحقنها؛ لِما في عقوبة الجاني من ردع لغيره عن ارتكاب هذه الجريمة، وتطييب لنفوس أولياء المقتول بأخذ حقِّهم بالقصاص من الجاني. وفي هذا التشريع أيضًا حياة للناس، بأنْ فتح باب العفو وأخذ الدِّيَة، علمًا بأنَّ تحقيق هذه المقاصد كلِّها ليس موجودًا في أيِّ تشريع وضعه البشر.
ومن الأمثلة كذلك الإعجاز التشريعي في المواريث، مُثَّلًا بالدِّقَّة والتوازن في تقسيم التِّْركة بين الورثة.
وتتجلّى هذه الدِّقَّة في صياغة آيات قليلة تحوي أحكامًا مُفصَّلةً لتوزيع الميراث، مُراعِيةً الفطرة البشرية في حُبِّ المال، وتوزيع التِّْركة على الورثة بطريقة تُرسِّخ العدالة، وتمنع الجريمة، وتحفظ الروابط الأُسرية.
أمّا التوازن فيظهر في المراوحة بين درجة القرابة والحاجة إلى المال؛ إذ يُعطى الأقرب إلى الميت الأولوية عند تقسيم التِّْركة، ويُحافَظ - في الوقت نفسه- على حقوق الورثة. ويُعَدُّ توزيع المواريث وسيلة للحفاظ على المُلْكية الفردية، وعدم تجميعها في أيدي فئة قليلة من الأفراد؛ ما يُعزِّز العدالة الاجتماعية، ويُحافِظ على التوازن في المجتمع.
أَتَوَقَّفُ
القرآن الكريم في الأصل هو كتاب هداية وإرشاد، ومقصده الرئيس يتمثَّل في بناء الإنسان، وتوجيهه نحو العقيدة الصحيحة والخُلُق القويم. وقد جاءت الإشارات العلمية فيه بوصفها وسيلة من وسائل تحقيق هذا المقصد.
- الإعجاز العلمي:
يتمثَّل هذا النوع من الإعجاز في الإشارات والحقائق العلمية التي وردت في القرآن الكريم، وأثبتها العلم التجريبي بعد ذلك، ولم يكن التوصُّل إليها وإدراكها مُمكِنًا زمن نزول القرآن الكريم، وقد تمكَّن العلماء من اكتشافها في ظلِّ تطوُّر وسائل البحث العلمي.
وما يزال بيان الإعجاز العلمي لآيات القرآن الكريم التي تحوي حقائق علمية بحاجة إلى مزيد من الجُهْد والبحث والتقصّي؛ على أنْ يتولّى ذلك أصحاب الاختصاص، وألّا يقوم على نظريات وفرضيات قابلة للتغيير والتبديل؛ لكيلا يوصَف القرآن الكريم بالكذب في حال تغيُّر هذه النظريات والفرضيات.
وممّا ورد في القرآن الكريم من حقائق علمية، قوله تعالى في بيان أطوار الجنين وهو في بطن أُمِّه: (هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطفَة ثُمَّ مِنۡ عَلَقَة) (غافر: 67)؛ إذ أشارت الآية الكريمة إلى إحدى مراحل الخَلْق، وهي العلقة. وقد جاء استخدام هذه اللفظة (علقة) دقيقًا؛ إذ اكتشف العلماء حديثًا أنَّ الجنين في هذه المرحلة يتعلَّق برَحِم أُمِّه، ويتغذّى من دمها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ لفظة (علقة) تُطلَق على الدم الجامد شديد الحُمْرة.
أفكر وأناقش |
|
الْإِثْراءُ وَالتَّوَسُّعُ
- اهتمَّ العلماء قديمًا وحديثًا بإعجاز القرآن الكريم، وبيان أوجهه المُتعدِّدة، وإبراز جوانب الروعة في هذا الكتاب العظيم. وقد أُلِّفت كتب كثيرة عُنِيت بكلِّ وجه من أوجه الإعجاز، مثل: كتاب (إعجاز القرآن) لأبي بكر الباقلاني، وكتاب (الإعجاز البياني للقرآن) للدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ).
- شهد بعض علماء الغرب بوجود إعجاز علمي في القرآن الكريم؛ إذ قال كيث مور، وهو من أكبر علماء التشريح والأَجِنَّة في العالَم، وأحد الحاصلين على جائزة نوبل: "إنَّ أوصاف الأَجِنَّة البشرية في القرآن الكريم لا يُمكِن بناؤها على المعرفة العلمية للقرن السابع. الاستنتاج الوحيد المعقول هو أنَّ هذه الأوصاف قد أُوحِيت إلى محمد صلى الله عليه وسلم من الله تعالى؛ إذ ما كان له أنْ يعرف مثل هذه التفاصيل لأنَّه كان أُمِّيًّا".