اللغة العربية 10 فصل ثاني

العاشر

icon
 الإسلامُ والتّفاعلُ الحضارُّ: حوارٌ أَمْ صراعٌ لـ (ناصرِ الدّينِ الأسدِ)

حوارُ الثّقافاتِ أو حوارُ الحضاراتِ أو حوارُ الأديانِ أو حوارُ الإسلامِ والغربِ، كلُّها عناوينُ لموضوعٍ واحدٍ، أو لموضوعاتٍ متقاربةِ متداخلةٍ، لا تكادُ تتمايزُ إلا بِشيءٍ مِنَ التّعميمِ أو التّخصيصِ. وهي موضوعاتٌ كَثُرَ تناولُها في عددٍ مِنَ الكُتُبِ والمؤتمراتِ، وهي جديرةٌ بإعادةِ القولِ فيها ومداوَرتِها، لتوسيعِ نطاقِ المتفهِّمينَ لَهُ والمقتنعينَ بِهِ، عسى أنْ ينتقلَ الأمرُ مِنْ مرحلةِ الفَهْمِ والاقتناعِ إلى مرحلةِ التّعاونِ على العملِ المشتركِ بينَ جميعِ المؤمنينَ بالسّلامِ والعَدْلِ واقتلاعٍ بذورِ الأحقادِ بينَ الشّعوبِ.

 وهو حوارٌ قديمٌ قِدَمَ وجودِ الشُّعوبِ ذاتِ الحضاراتِ المتجاورةِ، بحيثُ كانتْ دائمًا تتبادلُ المعارفَ والخبراتِ والسلعَ وأنماطَ الحياةِ مِنْ: سلوك ومَلْبَس ومأكلٍ وطُرُزِ عمارةٍ وأثاثٍ، وتستعيرُ الألفاظَ والعباراتِ وتقاليدَ المجتمع، فتصبحُ جزءًا مِنْ مفرداتِ لغاتِها وأساليبِ تعبيرِها وتدخلُ في نسيجِها الاجتماعيِّ؛ فتنمو بذلكَ الثِّقافاتُ وتزدهرُ. ولولا تغايُرُ الشُّعوبِ واختلافُ الحضاراتِ ما كان لشيءٍ مِنْ ذلكَ أنْ يحدثَ. ومِنْ أجلِ هذا خلقَنَا اللهُ سبحانَهُ شعوبًا وقبائلَ لنتعارفَ، ولو شاءَ سبحانَهُ لجعلَنا أمّةً واحدةً، لكنَّ حكمتَهُ عزَّ وجلَّ اقتضتْ أن يخلُقَنا مختلفينَ، وأنْ نظلَّ مختلفينَ، وأنْ نظلَّ كذلكَ، ربما مِنْ أجلِ هذا التّعارفِ والتّبادلِ والحوارِ.

وحينَ كانتِ العلاقاتُ تضطربُ بينَ هذهِ الشعوبِ المختلفةِ، فتقومُ بينَهم الحروبُ، كانَ يحدثُ مِنْ خلالِها الاتّصالُ والتّعارفُ والتّبادلُ والتّمازجُ؛ فتتحقّقُ الأهدافُ نفسُها بالوسائلِ المتناقضةِ.

وقد قامَ في الآونةِ الأخيرةِ مَنْ يرى أنّ العلاقةَ بينَ الثّقافاتِ والحضاراتِ علاقاتُ صراعٍ لا ينتهي إلا بغَلَبَةِ ثقافةٍ وحضارةٍ بِعَينِهما وسيادتِهما على الثّقافاتِ والحضاراتِ الأخرى. مِنْ ذلكَ ما ذهبَ إليهِ المُؤرِّخُ الأمريكيُّ مِنْ أصلٍ يابانيّ (فوكوياما) في كتابِه "نهايةُ التّاريخ"، الَّذي رأى فيهِ أنَّ تفكُّكَ الاتّحادِ السّوفييتيِّ قد أنهى الصِّراعَ في العالمِ بسيادةِ ثقافةِ النّموذجِ اللّيبراليِّ الأمريكيِّ على ثقافاتِ الأمم الأخرى. ومَا ذهبَ إليه الأستاذُ الأمريكيُّ (صمويل هتنغتون) في مقالته: "صراعُ الحضاراتِ"؛ مِنْ أنَّ الصِّراعَ الحاليَّ هو صراعٌ بينَ الثّقافاتِ.

لقد كانَ عصرُ التّنويرِ عندَ الأوروبيينَ هو بدايةُ عصرِ التّخلُّفِ والتّراجع للمسلمينَ، وأخذتْ الفجوةُ بينَ هذينِ العالَمَينِ في الاتَساعِ إلى أنْ وصلت إلى ما هي عليهِ الآنَ، بالرّغمِ مِنْ بعضِ المشابِهِ في مظاهرِ الحضارةِ والتّقدُّمِ بينهُما: في المَلْبَسِ والمَسْكَنِ والمَطْعَمِ والمَشْرَبِ ووسائلِ التّنقُّلِ؛ فهي مشابِه تحملُ في طيّاتِها بذورَ الاختلافِ الكبيرِ بينَ عالَمٍ مبدعٍ منتجٍ متطوِّرٍ، وعالَمِ مستورِدٍ مستهلِكِ لما يبدعُه وينتجُهُ ويطوّرُهُ العالَمُ الأوّلُ. وتحتَ هذهِ القشرةِ مِنَ التّشابُه يصطخبُ التّباعدُ والتّناقضُ والاختلافُ.

 

ومَعَ كلِّ هذهِ المخاوفِ والاتّهاماتِ المتبادَلَةِ فإنّ محاولةَ إقامةِ علاقاتٍ ومَعَ كلِّ هذهِ المخاوفِ والاتّهاماتِ المتبادَلَةِ فإنّ محاولةَ إقامةِ علاقاتِ ثقافيّةٍ بينَ الجانبينِ مستمرة في صورةِ أنواعٍ مختلفةٍ مِنْ مؤتمراتِ الحوارِ وندواتِهِ: فمِنْ حوارِ عربيٍّ أوروبيٍّ، إلى حوارِ الشّمالِ والجنوبِ، إلى حوارِ إسلاميٍّ مسيحيٍّ. ومعَ أنّ هذا الحوارَ بدأ- في صورتِه المنظَّمةِ الحديثةِ – منذُ ما يزيدُ على عشرينَ عامًا، إلا إنّ كثيرينَ يُشكِّكونَ في جدواهُ، ويرَوْنَه بلا قيمة حتّى الآنَ، وأنَّه محصورٌ بينَ نفرِ محدودِ داخلَ غرفٍ مغلقةٍ .. ، إلى آخرِ هذهِ الأحكامِ الَتي تنطبقُ على أشكالِ العلاقاتِ الثّقافيَّةِ الأخرى.

في خضمّ هذا الجوّ من عدم الثقة، ومن عقابيل الماضي والحاضر، لم يعد يكفي أن يقف المرء موقف المشاهد غير المبالي، ولا موقف المتسامح السلبيّ، بل لا بدّ من موقف إيجابيّ من التفاهم وإقامة علاقات متداخلة تقوم على تبادل مصالح مشتركة، ولا بدّ من محاولة تفهّم الآخر، وتقبُّله كما هو، دون أن يعني ذلك تطابق جميع الآراء والاتجاهات والموافقة عليها فالتواصل كالتعددية إنما يعني احتفاظ كلّ فريق بخصائصه وصفاته، وقبول الآخر على حاله، وإلا انتفى معنى التواصل ومعنى التعددية.

ولا بدّ في هذا المجال من التفرقة بين الأفكار والمواقف وبين التعاون وتبادل العلاقات الثقافية، وكذلك لا بدّ في المجال الدينيّ من التفرقة بين العقيدة والمعاملة، فإنّ المرء أو الشعب يستطيع أن يحتفظ بآرائه، وبمواقفه القومية والوطنية، وبعقيدته الدينية، وفي الوقت نفسه يُقيم مع من يخالفه أنواع العلاقات السياسية والاجتامعية والاقتصادية والثقافية؛ "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعذة الحسنة، وجادلهم بالتي عي أحسن، إنّ ربّك هو أعمل بمن ضلّ عن سبيله، وهو أعمل بالمهتدين" (سورة النحل/125). و "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا  منهم" (سورة العنكبوت/46). و "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون" (سورة الممتحنة 8-9)

بتصرف من كتاب "نحن والآخر" /لناصر الدين الأسد/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1997. الصفحات (69-87)

 

Jo Academy Logo