أنعم الله تعالى على الإنسان بالحواس لأنّ الحواس تؤهله لاكتساب المعرفة، ويستطيع الإنسان أن يكتسب المعرفة من خلال التّأمل والتّفكر في خلق الله تعالى لهذا الكون.
وقد حثّ القرآن الكريم في كثير من الآيات الكريمة على التأمل والتّفكر في خلق الكون، ذلك أن التأمل والتفكير هي الخطوة الأولى في طريق البحث العلمي.
أولا: مفهوم البحث العلمي
أسلوب منظّم في اكتشاف المعرفة والوصول إليه، باستخدام الأدوات الموضوعيّة المتاحة، والتي لا تتأثر بذاتية الباحث ومشاعره.
وتختلف مناهج البحث العلمي باختلاف موضوعه، مثال ذلك المنهج التجريبي حيث يقوم على:
- جمع المعلومات عن طريق الملاحظة العلمية.
- اقتراح فرضية أو أكثر لتفسير هذه الملاحظة.
- إجراء التجربة لاختبار صدق الفرضيات.
* وذلك حتى تكتمل المعرفة التي توضح ما لوحظ وتفسره.
ثانيا: تاريخ البحث العلمي عند المسلمين
استفاد العلماء المسلمون من مناهج البحث العلمي عند علماء الأمم الأخرى ممن سبقهم مثل اليونان والرومان والهنود والفرس.
وطريقة الاستفادة كانت مبنية على:
- دراسة مناهج العلماء السابقين.
- أخذ ما يصلح منها وتطويرها والزيادة فيها وتحسينها.
وقد كان لمنهج البحث العلمي عند علماء المسلمين أثرا في تقدّم الحضارة الإنسانية ورقيها خاصة الحضارة الغربية، ويظهر ذلك من خلال:
- العالم الإسلامي كان قبلة الباحثين الغربيين حيث أخذوا من معارفه وعلومه.
- تعلموا اللغة العربية ليتمكنوا من فهم العلوم.
- قاموا بترجمة بعض ما كتبه علماء المسلمين. ومن أمثلة الكتب التي ترجموها:كتب الخوارزمي، ابن الهيثم، ابن سينا، الرازي، ابن خلدون، ابن رشد، ابن النفيس، والزهراوي.
- نقلوا كتب علماء المسلمين إلى بلادهم ودرسوها واستفادوا منها ( فكانت من أهم أسباب نهضتهم).
ثالثا: غاية البحث العلمي
تتوافق غاية البحث العلمي مع الغاية التي خُلق الإنسان من أجلها:
- فهو عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله تعالى.
- هو وسيلة لتحقيق الخير والسعادة للبشرية.
- يحقق عمارة الأرض والاستخلاف فيها.
- تيسير سبل الحياة للإنسان.
- تحقيق التّقدّم العلمي والرّقي الحضاري.
أمّا البحث العلمي الذي يعود بالضرر على البشريّة فرفضه الإسلام وحرّم استخدامه لإيقاع الضرر بالنّاس.
رابعا: أخلاق البحث العلمي
ينبغي على الباحث أن يلتزم بأخلاقيات كثيرة منها:
- البعد عن الهوى والتّعصب والتحيّز.
- الصّدق في عرض النتائج.
- الأمانة والصبر.
- التوثيق والتّثبت.قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(سورة الحجرات، الآية 6) الآية الكريمة تدل على التثبت والدقة.
ومثال التثبت والدّقة في الحديث النبوي الشريف: ظهر في نقل علماء الحديث الشريف.
حيث تتبعوا أسانيد الرّوايات وما فيها من اتصال وانقطاع.
ووضعوا قواعد علم الجرح والتعديل الّذي يميّز الرّواية الصّحيحة من غيرها.
خامسا: مجالات البحث العلمي
للبحث العلمي مجالات تشمل مختلف العلوم، منها ما يأتي:
1- العلوم الإنسانية والاجتماعية: هي العلوم التي تشتمل على:
علوم الشريعة الإسلامية (كالفقه، وأصول الفقه)، وعلوم التربية والاجتماع، والنّفس، والاقتصاد، والتاريخ، وعلوم اللغة العربية، وغيرها.
2- العلوم التّطبيقية: هي العلوم التي تعنى بتطبيق المعرفة ونقلها إلى البيئة المادية غالبا: (كعلم الطب، وعلوم الهندسة، والرياضيات، والكيمياء).
سادسا: أساسيات البحث العلمي عند العلماء المسلمين
استمد البحث العلمي في الإسلام قواعده من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، بالإضافة إلى ما أفادوه من علوم الحضارات الأخرى.
ومن هذه الأسس والقواعد:
- إقامة الدليل لإثبات الفرضيات والادّعاءات
- مراعاة متطلبات كل علم من العلوم.
- عدم إخضاع الأمور الغيبية المطلقة للبحث التجريبي
وفيما يلي بيان هذه الأسس والقواعد:
1 - إقامة الدليل لإثبات الفرضيات والادّعاءات
فلا قيمة لفكر أو رأي ليس عليه دليل، ولا تقوم به حجة، قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين}(سورة النمل،الآية 64)
والدليل إما عقلي أو نقلي أو تجريبي. وقد بين القرآن الكريم هذه الأدلة، في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} (سورة الإسراء، 36)
الآية الكريمة تشير إلى ثلاثة أدلة تؤكد في حقيقتها الأدّلة المعتبرة في البحث العلمي وهي:
- الدّليل النّقلي (السّمع)، وهو الدليل القائم على النقل الصحيح الذي يتيقن السامع من صدق مخبره.كالأخبار الواردة في القرآن الكريم وصحيح السنة المشرفة، وما ينقله الثقات العدول.
- دليل الملاحظة والتّجربة (البصر)، وهو الدّليل (التجريبي)، وذلك في ما يقع تحت التجربة والاختيار من مسائل العلوم.
فالإمام الرّازي مثلا عندما أراد اختيار مكان لمستشفى قام بوضع قطع من اللحم في أماكن متنوعة، وراقب صلاحية اللحم في تلك الأماكن، فاستقر رأيه على إقامة المستشفى في المكان الذي بقيت فيه قطعة اللحم صالحة لأطول مدة فكان بحثه قائما على التّجربة والملاحظة
- دليل الاستنتاج والاستنباط (الفؤاد)، وهو الدليل القائم على استنتاج العقل السليم، مثل الاستدلال على وجود الله تعالى عن طريق النّظر والتفكر في آياته وبديع صنعه في الكون .
2- مراعاة متطلبات كل علم من العلوم.
- علوم القرآن الكريم والحديث الشريف: يراعى فيها قواعد اللغة العربية ودلالاتها.
- علوم الفقه والتشريع: تُراعي قواعد استنباط الأحكام، وأصول الفقه.
- العلوم التطبيقية: يراعى فيها قواعد المنهج الذي يقوم على التجارب الميدانية أو المخبرية ودراسة نتائجها للتأكد من إمكانية تطبيقها في الواقع.
3- عدم إخضاع الأمور الغيبية المطلقة للبحث التجريبي
كالإيمان بالملائكة واليوم الآخر وما يماثلها وإنما يعتمد فيها على ما أخبرنا به القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، وذلك لعدم قدرة العقل البشري على إدراكها وتصورها، فيجب الإيمان بها كما وردت.
سابعا: مأسسة البحث العلمي
تطوّر البحث العلمي عند المسلمين حتى أصبح عملا مؤسسيا له جهات ومؤسسات خاصة ترعاه وتعتني به، فقد اشتهر في تاريخ حضارتنا الإسلامية:
- المكتبات والمؤسسات التي عنيت بالبحث العلمي مثل "بيت الحكمة" في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد وازدهرت في عهد المأمون.
- "والمراصد الفلكية"، والمستشفيات الطبية التي عنيت بالجانب البحثي.
وفي العصر الحديث مؤسسات كثيرة تعنى بالبحث العلمي، وتوفر له مستلزماته وأدواته والمال اللازم له، وتعزز الباحثين، وتنشر البحوث العلمية.
وفي الأردن اشتهر عدد من المراكز والمعاهد الخاصة بالبحث العلمي منها:
- المركز الجغرافي الملكي.
- الجمعية العلمية الملكية.
- مراكز البحث الموجودة في الجامعات.