التَّعَلُّمُ الْقَبْلِيُّ
راعت الشريعة الإسلامية ظروف الناس وأحوالهم، وشرعت لهم أحكامًا تُناسِب ذلك، وأكَّد النبي صلى الله عليه السلام منهج التيسير ورفع المشقَّة قولًا وعملًا. قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185). وقد جعل الله تعالى الأُمَّة الإسلامية أُمَّةً وسطًا تقوم على منهج التوازن والاعتدال في كل شؤون حياتها، ونهى عن التشدُّد والغُلُوِّ في الدين، أو التساهل في تنفيذ أوامره وواجباته؛ ما يُشوِّه صورة الإسلام السمحة، ويؤدّي إلى انصراف الناس عنه، ونفورهم منه.
التعريف براوي الحديث
هو الصحابي الجليل أنس بن مَالك بن النَّضر الْأنْصَارِيّ
ولد قبل الهجرة بعشر سنين في يثرب
أمه أم سليم الأنصارية
جعلته أمه خادمًا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، تربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وتلقى عنه الكثير من العلم
هو من المكثرين في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لازمه منذ أن هاجر إلى أن توفي رضي الله عنه،
عاش مئة وثلاث سنين، وفي خلافة عمر رضي الله عنه استقر في البصرة معلمًا للناس، وهو آخر من توفي فيها من الصحابة وكان ذلك في سنة ثلاث وتسعين للهجرة.
الفهمُ والتَّحليلُ
دعا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث النبوي الشريف إلى التوسط والاعتدال والبعد عن الغلو والتشدد.
أَولًا: حرص الصحابة على معرفة أحكام دينهم
كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام شديدي الحرص على معرفة أحكام دينهم، لذلك كانوا يكثرون من السؤال عن ما ينزل بهم من وقائع وأحداث، ويحرصون على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك أنه جاء ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، ليسألوا أزواجه عن عبادته صلى الله عليه وسلم في بيته، وذلك لأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم إما ظاهر يعرفه الناس كلهم؛ كالذي يفعله في المسجد أو في السوق ، وإما أن يخفى معرفته على الناس إلا من كان في بيته، فأخبرتهم نساء النبي صلى الله عليه وسلم عن عبادته وصلاته وصيامه، إلا أنهم رأوها قليلة وعللوا ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى مزيد عمل واجتهاد في الطاعة؛ لأن الله تعالى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما باقي الناس فلا بد لهم من الإكثار من الطاعات لكثرة وقوعهم في الأخطاء والمعاصي.
ثانيًا: النهي عن التشدد
لما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته أخبرته زوجاته بما كان من شأن هؤلاء الثلاثة وما ألزموا أنفسهم به وهو:
أ. الأول: ألزم نفسه بقيام كل الليل، فلا ينام في الليل أبدًا.
ب. الثاني ألزم نفسه صيام الدهر كله، فلا يفطر أبدًا.
ج. الثالث ألزم نفسه بعدم الزواج نهائيًّا.
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك غضب وصحّح لهم المنهج الذي يجب أن يكونوا عليه.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» تثبت من القول قبل عتاب قائله وبناء الأحكام على قوله أو فعله،
وبعد ذلك وجههم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنهج الإسلامي الصحيح من خلال:
1. عدم تحميل النفس ما لا تطيق ولو من الأعمال الصالحة.
2. عدم حرمان النفس من التمتع بالمباح.
3. اتباع ما جاء به الشرع دون تشدد.
المتشدد لا يأمن من الملل الذي يؤدي إلى التوقف عن العمل، بخلاف المقتصد، فإنه يضمن استمرار العمل، وخير العمل ما داوم عليه صاحبه وإن قل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مغفورًا له، فخشية الله تعالى والخوف منه يحمله على الاجتهاد، وملازمة العبادة، فأخبرهم g أنه يقوم جزءًا من الليل وينام جزءًا آخر، ويصوم بعض الأيام ويفطر بعضها الآخر، وأخبرهم أنه يتزوج النساء.
أَتوقَّف
الفرق بين التشدد والمجاهدة:
التشدد في الدين مكروه، وهو إلزام النفس بما يشق عليها وبما لا يُلزمها به الشرع.
المجاهدة في العبادة فهي مستحبة، وهي حمل النفس على الاجتهاد بالعمل بما جاء به الشرع من أمر أو نهي، قال الله تعالى(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: 69).
ثالثًا: أثر مخالفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث النبوي الشريف بأن ما ألزم به هؤلاء الثلاثة أنفسهم مخالف لهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، والمراد بالسُّنَّة في هذا الحديث المنهج الذي كان يتبعه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حياته وفي تطبيق أحكام الشريعة، وبيّن أن مخالفة هذا المنهج خروج عن طريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنته، وأن التشدد في التعبد يؤدي إلى: الإخلال بباقي الحقوق والالتزامات التي أمر الله تعالى بمراعاتها، والتي منها حقوق الزوجة والأبناء والعناية بهم، وطلب العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
أنكر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصحابة الكرام المبالغة في العبادة والطاعة، والانقطاع عن ملذات الدنيا ، فهذا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية.
صورة مشرقة
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما شديد الاقتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إنه كان يسير خلفه ويجتهد أن يضع قدمه في موطئ قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، " أَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ آثَارَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُصَلِّي فِيهَا حَتَّى إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَصُبُّ الْمَاءَ تَحْتَهَا حَتَّى لَا تَيْبَسَ ". (سنن البيهقي)
الإِثراءُ والتَّوسُّعُ
اختص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببعض الأحكام التي انفرد بها عن غيره، مثل:
- إباحة الوصال في الصوم، مع أنه نهى المسلمين عن الوصال.
- حرمة أخذ الصدقة، مع أنه مباح لفقراء المسلمين.
- وجوب قيام الليل عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مع أنه مندوب لغيره من الأمة.