التَّعلُّمُ القَبليُّ:
في بداية الدعوة في مكة المكرمة صبر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى مشركي قريش، ثم أخذ صلى الله عليه وسلم يبحث عن قاعدة آمنة تنطلق منها الدعوة الإسلامية، فخرج إلى الطائف يدعو أهلها، ثم بعد بيعة العقبة الثانية اتجه إلى المدينة المنورة مهاجرًا، فوضع دستورًا لتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع، ونظرًا لاستمرار المشركين في عدائهم للمسلمين وصدهم الناس عن الدين وفتنتهم لمن آمن شُرع الجهاد لرد الأذى والعدوان عن المسلمين وللدفاع عن الدين والوطن والمقدسات، وبعد صلح الحديبية الذي يعد أول معاهدة دولية في الإسلام، أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كتبًا وسفراء إلى الملوك والرؤساء في عصره، لإبلاغهم دعوته، وهذه الرسائل كانت أيضًا نوعًا من العلاقات الدولية بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول.
الفهمُ والتَّحليلُ
دعت الشريعة الإسلامية إلى بناء العلاقات بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول على أساس من العدل والتعاون لما فيه خير الإنسان.
أَولًا: مفهوم العلاقات الدولية وأسسها في الإسلام
هي الصلات والروابط بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول وفق أحكام الشريعة الإسلامية في حالتيّ السلم والحرب من أجل التعاون على الخير وإقامة العدل.
وتقوم العلاقات الدولية في الإسلام على مجموعة من الأسس المنبثقة عن الشريعة الإسلاميّة لتنظيم العلاقات بين الدول، ومن أهمها:
أ. التعاون: دعا الإسلام إلى التعاون بين الناس على اختلاف أعرافهم وأديانهم ودولهم من أجل الخير وإعمار الأرض، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ والعدوان﴾ (المائدة:2).
من وجوه التعاون بين البشر:
المحافظة على خيرات الأرض والعمل على نفع الإنسانية، والتعاون في دفع الضرر ورفعه كما في الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والبراكين وغيرها.
ب. العدل: دعا الإسلام إلى نشر العدل بين الناس جميعًا وأولاه عناية خاصة وحث على اتباعه؛ لأنه يعد قوام الدين وأساسًا للعلاقات الدولية حتى مع الأعداء، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة:8). (بِالْقِسْطِ: بالعدل، وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يحملنكم، شَنَآنُ: بُغض)
ج. الرحمة: تقوم العلاقات الدولية في الإسلام على الرحمة في حالتي السلم والحرب، فقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعامل بالرحمة مع الآخرين بغض النظر عن دينهم، ووضع حدودًا للأفعال غير الإنسانية التي كانت تمارس في الحروب، ودعا الإسلام إلى التسامح وضرورة دفع العداوة بالتي هي أحسن، ولذا أطلق المسلمون من كان في أيديهم من الأسرى بعد غزوة بني المصطلق خاصة بعد مصاهرة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، كما تسامح صلى الله عليه وسلم مع مشركي قريش عندما فتح مكة فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" (رواه البيهقي)، وكان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية يوصيهم بقوله صلى الله عليه وسلم : « لَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» (رواه ابن ماجة)، (لا تغلوا: لا تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها).
د. الوفاء بالعهود والمواثيق: حث الإسلام على احترام العهود والمواثيق التي يعقدها المسلمون مع غيرهم والوفاء بها، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ (الرعد:20)، وفي ظل الالتزام بالعهود يسود الأمن.
ومن الأمثلة على ذلك موقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بصير رضي الله عنه عندما جاء إلى المدينة المنورة بعد فترة وجيزة من كتابة صلح الحديبية فرارًا بدينه ولكن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّهُ إلى المشركين وفاءً لشروط الصلح؛ حيث كان من شروط الصلح(من جاء من المشركين إلى المسلمين ردّوه إليهم).
وموقفه صلى الله عليه وسلم من حذيفة بن اليمان ووالده رضي الله عنهما في بدر حيث برر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عدم مشاركتهما في غزوة بدر قائلًا: «مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ» (رواه مسلم) (انْصَرِفَا: اذهبا).
صورة مشرقة
كان بين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما والروم عهد، وفي آخر المدة سار إليهم معاوية رضي الله عنه بجيوشه ليقترب منهم حتى يغير عليهم مع انقضاء المدة، وإذا بشيخ كبير يقول: الله أكبر وفاء لا غدر، فقال معاوية رضي الله عنه: ما قولك وفاء لا غدر؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَحِلَّ عُقْدَةً، وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ " (رواه أحمد)، فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش. (ينبذ إليهم: يُعلِمَهُم أنه نقض العهد).
هـ. المعاملة بالمثل، أقرت الشريعة الإسلامية مبدأ المعاملة بالمثل في العلاقات الدولية، في الحرب أو السلم، قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ (البقرة:194)، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ (البقرة:190)، فهذه النصوص وغيرها توجب على المسلمين استخدام ما تدعو إليه الحاجة من رد الاعتداء بالقدر الضروري .
ثانيًا: السلم أصل العلاقات الدولية في الإسلام
جعلت الشريعة الإسلامية الأصل في علاقات الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول السلم أما الحرب فهي حالة استثنائية يُلجأ إليها عند الضرورة، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة:208) ، فعلى المسلمين إن عُرِض السلم قبوله ما لم يكن هناك اغتصاب لوطن أو عدوان على مال أو عرض، وأقوال النبي g وأفعاله وسيرته في الحروب والمعاهدات بينت ذلك، فقد عاش النبي g في مكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى ربه من غير قتال ولا حرب.
ومن الحالات الاستثنائية التي توجب الحرب والجهاد:
أ. الدفاع عن المسلمين ورد العدوان عنهم، فقد فرض الإسلام على المسلمين الدفاع عن بلادهم وحقوقهم ورد العدوان، قال تعالى:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ (البقرة: 216).
ب. نقض العهود والمواثيق، فقد بيّن الإسلام شناعة جرم من نقض العهود والمواثيق، أو أخل بهما، وجعل ذلك سببًا للحرب، قال تعالى:﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾ (الأنفال: 56)، وقال تعالى: ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 100).
ومن أمثلة ذلك: غدر يهود بني قينقاع بالمسلمين بعد غزوة بدر؛ فقد غاظهم انتصار المسلمين على المشركين، كما غدر بنو النضير بالمسلمين بعد غزوة أحد وتجرأوا عليهم، وغدر بنو قريظة بالمسلمين يوم الأحزاب وارتكبوا جريمة الخيانة العظمى، فاستحقوا العقاب.
ج. نصرة المظلوم، أجاز الإسلام الحرب لحماية المظلومين وإنصافهم، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ (النساء:75)، فالإسلام في هذه الحالة يتدخل لرفع الظلم والذي جعله الله تعالى سببا من الأسباب التي شرع من أجلها القتال، وقد ناصر النبيg قبيلة خزاعة على قريش وحليفتها بني بكر بسب اعتدائهم على قبيلة خزاعة.
د. الدفاع عن الدين، مرت الدعوة الإسلامية بظروف صعبة في بدايتها، مما اضطر النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى يثرب فرارًا بدينه، ثم اتخذت العلاقة الطابع الحربي ضد الحروب التي شنتها قريش للقضاء على الدعوة وكان لا بد من القتال لحماية الدعوة الإسلامية.
الإِثراءُ والتَّوسُّعُ
أقر الإسلام مبدأ عقد المعاهدات مع الدول الأخرى في حالتي السلم والحرب، قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة:7)، وتأخذ المعاهدات أشكالًا متعددة مثل:
- المعاهدات السياسية، وتهدف إلى تنظيم العلاقات الأمنية والدبلوماسية بين الدول كمعاهدة الحديبية.
- المعاهدات التجارية، وتهدف إلى تنظيم العلاقات الاقتصادية بين الدول من أجل توفير الموارد الضرورية التي يحتاجها المسلمون في شؤون حياتهم، حيث كان المسلمون في عهد النبي g يشترون الحبوب من بلاد الشام وهي ضمن الدولة الرومانية وكان تجار الروم يأتون إلى المدينة ويجلبون إليها البضائع.
- المعاهدات الثقافية، وتهدف إلى تعزيز التفاهم والتبادل الثقافي بين الدول في عدة مجالات كالتعليم والعلوم والفنون مما يعمل على حماية وتعزيز التراث الثقافي الإسلامي مع المحافظة على القيم الإسلامية، وبما لا يخالف المبادئ الإسلامية وثوابت الدين.
- المعاهدات الإنسانية، وتهدف إلى تقديم المساعدة والإغاثة للمحتاجين والمتضررين من الكوارث الطبيعية والنزاعات.
- المعاهدات البيئية، وتهدف إلى حماية البيئة ومكافحة التلوث والتغيرات المناخية بين الدول.
أتوقف
المعاهدات: هي اتفاقات تعقدها الدول فيما بينها بغرض تنظيم العلاقات الدولية، وتحديد القواعد التي تخضع لها هذه العلاقة.