من مصادر استنباط الأحكام الشرعية العملية: قرآن كريم، وسُنَّة نبوية شريفة، وإجماع، وقياس.
تهدف الشريعة الإسلامية إلى إسعاد الناس في الدنيا والآخرة، عن طريق:
أ. بجلب ما ينفعهم.
ب. دفع ما يضرُّهم.
مفهوم المصلحة وأنواعها
المصلحة: هي المنفعة التي قصدتها الشريعة الإسلامية للناس في أمور دينهم ودنياهم؛ بجلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرُّهم.
تُصنَّف المصالح في حياة الناس إلى ثلاثة أنواع، هي:
أ . المصالح التي قبلها الشرع، وأخذ بها في التشريع؛ لِما فيها من منفعة للناس.
تُسمّى المصلحة المُعتبَرة.
ومن أمثلتها:
- المصلحة الموجودة في نظر الخاطب إلى المخطوبة؛ لِما يحصل بينهما من الأُلفة والمودَّة.
الدليل: روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّه كانَ عِنْدَ النَّبيِِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتاهُ رَجُلٌ، فَأَخْبََهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الَْنصْارِ، فَقالَ لَهُ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَنَظَرْتَ إلَِيْها؟ قالَ: لَا، قالَ: فَاذْهَبْ، فَانْظُرْ إلَِيْها؛ فَإنَِّ في أَعْيُنِ الَْأنصْارِ شَيْئًا» (رواه مسلم)(في أَعْيُنِ الَْأنصْارِ شَيْئًا: يعني صِغَرًا).
ب. المصالح التي رفضها الشرع، ورفض الأخذ بها أو مراعاتها في التشريع.
تُسمّى المصلحة الملُْغاة.
ومن أمثلتها:
- المصلحة المُتحقِّقة لمَنْ يبيع الخمر؛ لِما فيها من ربح المال الوفير، فجاء الشرع بتحريم الخمر؛ لِما يُسبِّبه من ضرر كبير للأفراد والمجتمعات، ورفض هذه المصلحة الضيِّقة الخاصَّة بتاجر الخمور. قال تعالى:﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ (البقرة: 219).
ج.المصالح التي لم يَرِدْ في الشرع ما يدلُّ على قبولها أو رفضها.
تُسمّى المصلحة المُرسَلة.
ومن أمثلتها:
- إنشاء المحاكم الشرعية التي ترعى مصالح الناس وحقوقهم في مسائل الأحوال الشخصية، فوجودها فيه منفعة للناس من حيث ضبط أمور الزواج، والتثبُّت من تحقُّق شروطه الشرعية، والمحافظة على الحقوق المادية والمعنوية للزوجين والأبناء، ومنع الاعتداء عليها. ولم يَرِدْ في الشرع ما يمنع منها.
من الأمثلة على أنواع المصالح الثلاثة السابقة:
نوع المصلحة | مثال عليها | التعليل |
---|---|---|
مُعتبَرة | الأكل من المَيْتة عند الاضطرار | فيه حفظ للنفس من الهلاك |
مُلْغاة | اكتساب المال من الرشوة | فيه إضرار كبير بالفرد والمجتمع، وإفساد للدولة، وأكل لحقوق الناس بالباطل |
مرُسَلة | إنشاء مؤسسة لرعاية أموال الأيتام | فيه منفعة تتمثَّل في المحافظة على أموال اليتامى حتى يبلغوا سِنَّ الرشد |
حُجِّية المصلحة
يُقصَد بحُجِّية المصلحة: مدى اعتبارها دليلً شرعيًّا، ومصدرًا من مصادر التشريع.
الأدلَّة على مراعاة المصلحة في التشريع:
أ . قوله تعالى: ﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ (الأنبياء: ١٠٧).
وجه الدلالة في الآية الكريمة: أنَّ من مقاصد الشريعة الرحمة، والرفق بالناس، ومراعاة حاجاتهم وما ينفعهم. وممّا يدخل في ذلك ما يجلب لهم مصالحهم، ولو لم يَرِدْ فيه نصٌّ.
ب. قوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها﴾ (البقرة: ٢٨٦).
وجه الدلالة:ففعل ما يُفْضي إلى تكليف الناس بما لا يطيقون هو غير مشروع وممنوع، ولو لم يَرِدْ نصٌّ يمنعه. فمثلًا، مصلحة المريض تقتضي السماح له بالصلاة قاعدًا. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلى جَنْبٍ » (رواه البخاري).
ج. قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا ضََرَرَ، وَ لَا ضَِرارَ» (رواه مالك في المُوطَّأ ).
وجه الدلالة: منع الإسلام كلَّ ما يُلحِق الضرر والف ساد بالفرد والمجتمع.
هذه قاعدة عظيمة في مراعاة مصالح الناس؛ لدرء المفسدة عنهم، ومنع كلِّ ما يضرُّهم، ولو لم يَرِدْ نصٌّ صريح بذلك؛ فالتدخين مثلًا يُسبِّب الأمراض الكثيرة لصاحبه ولمَنْ حوله.
د . عمل الصحابة رضي الله عنهم بالمصلحة من غير خلاف، فكان ذلك إجماعًا منهم، مثل:
- جمعهم القرآن الكريم في مصحف واحد خوفًا من ضياعه بموت الحُفّاظ.
- نسَخ القرآن الكريم نُسخًا عديدةً، ثمَّ يُرسَل إلى المدن الكبيرة؛ لتكون مرجعًا يمنع من اختلاف المسلمين في التلاوة؛ على أنْ يُرسَل مع كلِّ نسخة مُعلِّمٌ.
- إنشاء الدواوين في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
إنشاء دور القضاء في عهد الخليفة عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
ضوابط المصلحة
لم تترك الشريعة الإسلامية أمر تحديد المصلحة لأهواء الناس من دون ضوابط أو شروط؛ لأنَّ ذلك مُتفاوِت فيما بينهم من حيث العقل والعلم، فقد يرى شخص أنَّ في الأمر مصلحة، ويرى غيره عكس ذلك.
ومن ضوابط المصلحة:
أ . ألّا تُعارِض المصلحة حُكْمًا ثَبَتَ بنصٍّ أو إجماعٍ.
مثل: المساواة بين الابن والبنت في الميراث؛ فهذه مصلحة مُلْغاة، وغير مقبولة؛ لمعارضتها نصَّ القرآن الكريم، قال تعالى:(للذكر مثل حظ الأنثيين) (النساء:11).
ب. أنْ تكون المصلحة عامَّة، لا خاصَّة؛ وذلك بأن يحقق الحُكْم المطلوب المنفعة لأكبر عدد من الناس، أو يدفع ضررًا عنهم. فإذا كان الحُكْم يُلحِق ضررًا بمجموع الناس، ويُحقِّق مصلحة لفرد ما، فإنَّه لا يُشرَع.
مثل: تحريم الإسلام ؛ لِما يُسبِّبه من ضررٍ لعموم الناس. الرِّبا
قال تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ (البقرة: ٢٧٥)، بالرغم ممّا فيه من مصلحة شخصية لصاحب المال الذي يُقرِض الآخرين.
قال تعالى: ﴿وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله﴾ (الروم: ٣٩ ).
أنْ تكون المصلحة حقيقية، لا وهمية؛ فقد يتوهَّم بعض الناس أنَّ أمرًا ما هو مصلحة، وأنَّ فيه نفعًا، وهو في الحقيقة مفسدة، أو ضرره أكبر من نفعه. ج.
مثاله:
- ما يتوهَّمه بعض الأشخاص من مصلحة في عدم القصاص من القاتل؛ حفاظًا على حياته.
وهذا وهمٌ غير صحيح؛ فالمصلحة المُعتبَرة والمُؤكَّدة من تشريع القِصاص هي ردع الناس عن استباحة الدماء، والاعتداء بالقتل أو إيذاء الآخرين.
قال تعالى: ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تعقلون﴾ (البقرة:179).
- القتل الرحيم؛ إذ يلجأ بعض الناس إلى إنهاء حياة المريض بحُجَّة استحالة شفائه، فيُسارِعون إلى إنهاء حياته؛ لإراحته من الآلام والأوجاع التي يعانيها، قال تعالى: ﴿ولا تقتلوا انفسكم إن الله كان بكم رحيمًا﴾ (النساء: ٢٩ ).
الإثراء والتوسع
من الأحكام الشرعية التي استند العلماء في استنباطها على مراعاة المصالح:
1. جواز تسعير المواد والسلع التي تَلزم الناس في حياتهم. مع مراعاة المصلحة لكلٍّ من البائع والمشتري عند تحديد السعر.
2. جواز استخدام الطرائق الحديثة في المساعدة على الإنجاب؛ففي ذلك تحقيق لمصلحة الزوجين في رغبتهما أنْ يكون لهما أولاد، وتحقيق للمقصد الشرعي بالحفاظ على النسل.
3. جواز تشريح جُثَّة الميت لمعرفة سبب الوفاة، ففي ذلك تحقيق لمقصد العدل، وإنقاذ البريء من العقاب، ومعاقبة الجاني. وهذه المصلحة مُقدَّ مة على المفسدة الناتجة من تشريح الجُثَّة؛ وهي هتك حُرْمتها.