التَّعَلُّمُ الْقَبْلِيُّ
شََرعَ الإسلام الجهاد لرَدِّ الأذى والعدوان عن المسلمين، والدفاع عن الدين والوطن والمقُدَّسات.
وحرص - في الوقت نفسه- على إقامة علاقات مع الدول الأُخرى على أساس من السَّلْم؛ لذا عقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدات مع كثير من القبائل في الجزيرة العربية.
أمّا بعد الهجرة إلى المدينة المُنوَّرة فقد خاض النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من المعارك دفاعًا عن الدين في وجه مَنِ اعتدى على المسلمين، أو نقض العهود والمواثيق معهم.
الْفَهْمُ وَالتَّحْليلُ
تُعَدُّ معركة مؤتة أوَّل مواجهة عسكرية للمسلمين مع الروم.
أولًَا: سبب معركة مؤتة
في السَّنَة الثامنة للهجرة، بعث سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه برسالة إلى حاكم بُصرى في الشام، يدعوه فيها إلى الإسلام.
لمّا وصل الحارث أرض الطفيلة ، اعترض طريقه شرحبيل بن عمرو الغسّاني؛ وهو أحد أمراء الروم على الشام، فقتله،
هذا السلوك مُخالِف لِما جرت عليه العادة من عدم التعرُّض للرُّسُل أو قتلهم.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيز جيش لإرساله إلى مؤتة؛ حفظًا لهيبة دولة الإسلام في الجزيرة العربية، وتأديبًا لمَنِ اعتدى على مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: وصية سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش
جهَّز سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا قوامه ثلاثة آلاف مُقاتِل، وأمَّرَ عليهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنِْ قُتلَِ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإنِْ قُتلَِ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ الله بْنُ رَواحَةَ».
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلًا: «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِِ اللهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا».
(تَغُلُّوا: تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها، تُمَثِّلُوا: تُشوِّهوا جثث القتلى).
ثالثًا: أحداث معركة مؤتة
سمع الروم بجيش المسلمين، فجهَّزوا جيشًا كبيرًا لملاقاتهم. ولمّا وصلت أخبار جيش العدوِّ وعدده الكبير إلى جيش المسلمين، وكانوا قد وصلوا إلى أرض مَعان، تشاوروا فيما بينهم، فشجَّعهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وحفَّزهم على المُضِيِّ قُدُمًا لقتال العدوِّ، قائلًا: «يَا قَوْمِ، وَاللهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ، وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ بِهِ، فَانْطَلِقُوا؛ فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيِْن؛ إِمَّا ظُهُورٌ، وَإِمَّا شَهَادَةٌ»، وفي هذا دلالة على شجاعته رضي الله عنه.
وصل جيش المسلمين إلى سهل مؤتة، فبدأت حرب ضروس بين الطرفين، ثمَّ استُشهِد قادة المسلمين الثلاثة تِباعًا؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَعى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَواحَةَ رضي الله عنهم لِلناسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرهُمْ، فَقالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابنُ رَواحَةَ فَأُصِيبَ» وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ «حَتَّى أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ، حَتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ» (سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ: أيْ خالد بن الوليد رضي الله عنه).
صور مشرقة
ورد أنَّ سيِّدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ببسالة في معركة مؤتة، وكان يُردِّد الشِّعْر، قائلًا:
يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابَُا طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابَُا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابَُا كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابَُا
عَليَّ إِنْ لاقَيْتُهَا ضَِرابُها
ولمّا انتقلت الراية إلى القائد الثالث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، شجَّع نفسه، وحفَّزها على القتال، وأنشد يقول:
يَا نَفْسُ إِلّا تُقْتَلِي تَمُوتِي هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صُلِيْتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَدْ أُعْطِيتِ إِنْ تَفْعَلِي فِعْلَهُمَا هُدِيتِ
بعد استشهاد القادة الثلاثة، اختار المسلمون خالد بن الوليد رضي الله عنه ليتولّى قيادة الجيش؛ لشجاعته، وخبرته في القتال، وقدرته على قيادة الجيش، فقرَّر خالد رضي الله عنه الانسحاب بالجيش تدريجيًّا؛ لعدم تكافؤ الطرفين، وحقنًا لدماء المسلمين، وقد أَعَدَّ خُطَّة مُكَمة للانسحاب بأقلِّ الخسائر؛ إذ غيَّر ترتيب الجيش، فجعل المُقدِّمة مُؤخِّرة، والمُؤخِّرة مُقدِّمة، والميمنة ميسرة، والميسرة ميمنة، ثمَّ جعل الخيول تأتي من بعيد، وتثير الغبار بحوافرها؛ ليوهِم الروم أنَّ مَددًا جاء للمسلمين. وفي هذا دلالة على حكمة خالد بن الوليد رضي الله عنه، ونظره الثاقب إلى عواقب الأمور.
جازت الخدعة على الروم، وظنّوا أنَّ مَددًا جديدًا وصل إلى جيش المسلمين، فأحجموا عن ملاحقة جيش المسلمين الذي بدأ بالانسحاب؛ ظنًّا منهم أنَّ المسلمين قد أَعَدّوا لهم مكيدة، وبذلك تمكَّن خالد بن الوليد رضي الله عنه من العودة بجيش المسلمين إلى المدينة المُنوَّرة بسلام.
الْإِثْراءُ وَالتَّوَسُّعُ
تنتشر مقامات الصحابة الكرام في شمال الأردن وجنوبه، وقد عملت اللجنة المَلَكية لإعمار مقامات الأنبياء والصحابة على تجديد هذه المقامات؛ وفاءً للمكانة التي تليق بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضحياتهم في سبيل الإسلام ورسالته السمحة.
من مقامات الصحابة الكرام في الأردن: مقام الحارث بن عمير الأزدي في بلدة بصيرا في محافظة الطفيلة، ومقامات قادة معركة مؤتة الثلاثة الذين استُشهِدوا فيها، ودُفِنوا في بلدة المزار الجنوبي بمحافظة الكرك جنوب المملكة.