التَّعَلُّمُ الْقَبْلِيُّ
يُعَدُّ الحج من أعظم العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى الله عزوجل، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام. وفي السنة العاشرة للهجرة، خرج سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون لأداء فريضة الحج، وبيَّن صلى الله عليه وسلم لهم أحكام الحج، وشروطه، وسُنَنه، وآدابه؛ فقال صلى الله عليه وسلم : "لِتَأْخُذوا مَناسِكَكُمْ، فَإِنّي لا أَدْري لَعَلّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِهِ" (رواه مسلم).
أَتَوَقَّفُ
حَجَّ النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّة واحدة سُمِّيت حَجَّة الوداع، وقد شهدها حشد كبير من المسلمين، وفيها خطب النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين خطبة جامعة كانت آخر لقاء بينه g وبين أُمَّته. ولهذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فَوَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ، إِنَّها لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ" (رواه البخاري).
أَتَوَقَّفُ
من أسماء حَجَّة الوداع:
حَجَّة الإسلام؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يَحُجَّ غيرها.
حَجَّة البلاغ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بلَّغ الناس شرع الله تعالى في الحج قولًا وفعلًا.
الْفَهْمُ وَالتَّحْليلُ
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في حَجَّة الوداع بمجموعة من الوصايا المُهِمَّة، تضمَّنت المبادئ التي تتعلَّق بشؤون الحياة كلِّها، وبيَّنت أُسس الدين ومقاصد الشريعة الإسلامية. ومن هذه الوصايا:
أوَّلًا: حرمة الاعتداء على حياة الإنسان وماله وعِرْضه:
عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقالَ: "يا أَيُّها النّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هذا؟"، قالوا: يَوْمٌ حَرامٌ، قالَ: "فَأَيُّ بَلَدٍ هذا؟"، قالوا: بَلَدٌ حَرامٌ، قالَ: "فَأَيُّ شَهْرٍ هذا؟"، قالوا: شَهْرٌ حَرامٌ، قالَ: "فَإِنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوالَكُمْ وَأَعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا" (رواه البخاري ومسلم) (يَوْمَ النَّحْرِ: يوم عيد الأضحى المبارك). |
بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في خُطبته تلك:
حرمة دم الإنسان وماله وعِرْضه، وأكَّد صلى الله عليه وسلم حرمة ذلك بحرمة يوم عيد الأضحى، وحرمة شهر ذي الحِجَّة، وحرمة مكَّة المُكرَّمة؛ ما يُؤكِّد حماية الشريعة الإسلامية حقَّ الحياة للإنسان، وحرمة الاعتداء على حياته وماله وعِرْضه بغير وجه حقٍّ.
كذلك حرَّمت الشريعة الإسلامية أكل أموال الناس بالباطل على اختلاف صوره وأشكاله، وحرَّمت الاعتداء على عِرْض الإنسان بالزِّنا، أو القذف، أو الغيبة، أو الشتم، أو غير ذلك.
ثانيًا: التأكيد على مبدأ المساواة الإنسانية
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى". (رواه أحمد) |
أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة بين الناس، وبيَّن أنَّ التفاضل بينهم عند الله تعالى ليس بالعِرْق، أو اللون، أو النسب، أو المال، وإنَّما يكون بالتقوى والعمل الصالح. قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم﴾ (الحجرات: 13)؛ فالإسلام أرسى مبدأ العدل والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وفي الجزاء والعقاب.
أَتَوَقَّفُ
التقوى: مخافة الله تعالى في السِّرِّ والعلن، والتزام أوامره، واجتناب نواهيه.
ثالثًا: حرمة الرِّبا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا وَإِنَّ كُلَّ رِبا في الْجاهِلِيَّةِ مَوْضوعٌ، لَكُمْ رُءوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمونَ، وَلا تُظْلَمونَ، غَيْرَ رِبا الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضوعٌ كُلُّهُ" (رواه الترمذي). |
أبطل النبي صلى الله عليه وسلم أفعال الجاهلية التي تخالف شريعة الإسلام، ومنها الرِّبا الذي كان الناس يتعاملون به في الجاهلية؛ لِما فيه من استغلال للضعفاء، وتحكُّم فيهم، وأكل لأموال الناس بالباطل. وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال رِبا عَمِّه العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنهما، ليكون ذلك أدعى لامتثال أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: حرمة الثأر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضوعٌ، وَدِماءُ الْجاهِلِيَّةِ مَوْضوعَةٌ. وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمائِنا دَمُ ابْنِ رَبيعَةَ بْنِ الْحارِثِ، كانَ مُسْتَرْضَعًا في بَني سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ" (رواه الترمذي) (مَوْضوعٌ: متروك؛ أيْ لا قصاص، ولا دِيَة، ولا كَفّارة). |
كان من عادات العرب قبل الإسلام الأخذ بالثأر، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العادة الجاهلية في تلك الوصايا العظيمة، وأكَّد أنَّه لا يجوز لأحد المطالبة بالثأر؛ لِما يترتَّب على ذلك من نزاعات وحروب، وابتدأ صلى الله عليه وسلم بإبطال دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الذي كان مُسترضَعًا في بني سعد، فقتلته هذيل لحرب كانت بينهم في الجاهلية.
وقد شرع الإسلام حَدَّ القصاص في القتل حفظًا للدماء من الاعتداء. قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 179).
أَتَوَقَّفُ
الثأر: قتل الجاني أو أحد أقاربه بحُجَّة الانتقام.
خامسًا: التحذير من اتِّباع الشيطان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلّونَ في جَزيرَةِ الْعَرَبِ، وَلكنْ في التَّحْريشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم) (أَيِسَ: من اليأس، التَّحْريشِ: الإفساد). |
حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الاستجابة لوساوس الشيطان؛ بفعل ما يُغضِب الله تعالى، أو ترك ما أمر به سبحانه، وبيَّن أنَّ الشيطان قد يئس من عودة أهل جزيرة العرب إلى عبادة الأصنام كما كانوا عليه قبل فتح مكَّة وانتشار الإسلام بينهم، لكنَّه يسعى للتحريض بينهم بالخصومات، والشحناء، والحروب، والفتن، ونحو ذلك.
سادسًا: تكريم المرأة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ" (رواه مسلم). |
أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم حقوق المرأة وحفظ كرامتها، وأمر بتقوى الله في النساء؛ بالإحسان إليهنَّ، وحُسْن معاملتهنَّ، ومعاشرتهنَّ بالمعروف، وأداء حقوقهنَّ، خلافًا لِما كان عليه حال المرأة قبل الإسلام.
سابعًا: التمسُّك بالقرآن الكريم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَقَدْ تَرَكْتُ فيكُمْ ما لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتابُ اللهِ" (رواه مسلم). |
من أعظم وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع الدعوة إلى التمسُّك بالقرآن الكريم، وما ورد فيه من أوامر ونواهٍ؛ فالقرآن الكريم كتاب هداية، والواجب على المسلمين الرجوع إليه في جميع شؤون دينهم ودنياهم، والأخذ بأحكامه، وتطبيقها في حياتهم.
أَتَوَقَّفُ
الاعتصام بكتاب الله تعالى يشمل السُنَّة النبوية الشريفة؛ فقد حَثَّ على الأخذ بالسُّنَّة، وأمر بذلك في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (المائدة: 92).
الْإِثْراءُ وَالتَّوَسُّعُ
امتازت وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع باشتمالها على بعض الأساليب التي كان يَتَّبِعها سيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيه الناس، وبخاصَّة عند الخطابة؛ حتى يكون التأثير أبلغ. ومن ذلك:
- إثارة انتباه الناس باستخدام أسلوب النداء؛ فقد استهلَّ خُطبته بقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أَيُّها النّاسُ"، ثمَّ راعى أسلوب التشويق والإثارة عن طريق إشراكهم في الحوار، وتوجيه السؤال إليهم.
- الحرص على استنصات الناس؛ فعن جرير رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حَجَّة الوداع: "اسْتَنْصِتِ النّاسَ" (متفق عليه) (اسْتَنْصِتِ النّاسَ: اطلب إليهم أنْ يسكتوا، ويستمعوا لِما أقوله لهم).
- استخدام التشبيه لإيصال المقصود إلى المخاطبين، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا"؛ بُغْيَةَ مساعدة النفوس على استيعاب الأمر، وتأكيد حرمة الأموال والدماء.
- اعتماد أسلوب الإيجاز والاختصار، وذلك باستخدام العبارات القصيرة والبليغة والمُؤثِّرة في نفوس الناس.