اللغة العربية 11 فصل أول

الحادي عشر خطة جديدة

icon
التّلفزيونُ والتَّفكيرُ اللغويُّ


كانتِ الأُسرةُ في ما مضى ساحةَ التَّدريبِ الوَحيدةَ لِتنميةِ لغةِ الأطفالِ، وكانَ مَفهومًا أنَّهُ كلَّما تَكلَّمَ الآباءُ أكثرَ معَ أَطفالِهم، وقَرؤوا لهُمْ، واستَمعوا إليهم، زادَ احتمالُ أنْ يتعلَّموا استعمالَ اللُّغةِ بصورةٍ جيِّدةٍ. ومع التَّقبُلِ العامِ لِبَرنامَجِ "شارع السّمسم" التَلَفزيونيّ، باعتبارِه تَجرِبَةً تربويَّةً إيجابيَّةً لأطفال مَا قبلَ المَدرسةِ، شعرَ كثيرٌ مِنَ الآباءِ أَنَّ مُشاهدةَ البَرامجِ التَّلَفزيونيَّةِ "التُّربويَّة" ربَّما تكونُ عملا عقليًّا يَفوقُ في جدُواةُ أيَّ عملٍ آخَرَ قدْ يُوفَرونَهُ لهُم.


إلَّا أَنَّ النَّتائجَ التُّربويَّةَ للبَرنامجِ الذي جَرى تَصميمُهُ بعنايةٍ مِنْ أَبرزِ الاختصاصيِينَ في شُؤونِ الطَّفلِ جَاءتْ مُخيِبةً للأمالِ؛ فلَمْ يُحقَّقِ الأطفالُ مَهاراتٍ لُغويَّةً تُذكَرُ، باسْتثناء قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ التَّحسُنِ في تمييزٍِ الحُروفِ والأعدادِ. ونَشَرَتْ مُؤسَّسةً تربويَّةٌ مَعروفةً دِراسةً مُهمَّةً حولَ نَتائجٍ حُضورِ البَرنامَجِ على الأطفالِ،
تَحتَ عُنوانِ: "إعادةُ زيارةٍ شارعِ السمسم"، أَظْهَرَتْ أَنَّ الهُوْةَ بينَ الأَطفالِ المَحرومينَ منْ فُرَصِ التَّواصُلِ اللَّفظيَ وغيرِ المَحرومينَ، التي جَرى تَصميمُ البَرنامَجِ لِتَضييقها، قدِ اتسعَتْ فِعليًّا نَتيجةً للمُشاهدَةِ الواسعةِ للبَرنامَجِ، وأنَّ المُحاباةِ الإعلاميَّةَ الَّتي ظفِرَ بها البَرنامجُ مُنذُ بدايتِهِ، قدْ أَسْهَمَتْ في المُبالَغَةِ فِي التَّقْييمِ المُتَوقَّعِ لِتأثيراتِهِ؛ ممَّا جَذَبَ إِليْهِ جُمهورًا هائلًاً منَ الأُطفالِ؛ إذْ أَظْهَرَ استطلاعٌ حَديثٌ للرَّأْي أَنَّ ثَمانينَ فِي المِئَّةِ مِنَ الأطفالِ الأَمريكيَينَ مَا بَينَ سَنتَيْنِ وخَمْسِ سَنواتٍ يُشاهِدونَ البَرنامَجَ.

وربَّما تكونُ (دوروثي كوهين) أَوْلَ مُختصَةٍ في شُؤونِ الطّفلِ تنتقدُ علائيَةَ بِنيةَ البَرنامجِ المُتمثِّلة باللَّقَطَاتِ السَّريعةِ والحَركةِ اللَّاهثَّةِ، وكَتَبَتْ في بَحثِ اسْتحوذَ على اهْتمامٍ واسعٍ منَ المُربِينَ: "فِي الوَقتِ الّذي يَدْخُّلُ مُعظُمُ الأطفالِ إلى الرِّياضِ وحتَّى إلى مَدارسِ الخضانةِ وهُم يُميِّزونَ الحُروفَ نتيجةَ للتُّوكيدِ الَّذي يُولِيهِ شارعُ المّمسم" لِهذا التّمييزِ، فَإِنَّ ثمةَ تَناقُصًا في اللَّعِبِ التَّخيُّليِ، وزيادةً في الجَرْي نُونَما هدفٍ، وعُزوفًا عن موادِّ اللَّعِبِ، وضَعفًا في القدرةِ على تَحمَّلِ الإحباطِ، وتَدنَيَا في المُثابَرَةِ، وتَشوُّشًا حِيالَ الوَاقعِ والخَيالِ".

وتَرى (دوروثي وجيرومي سنجر) وهمَا مُختصَتانٍ فِي علْمِ النّفْسِ في جامعةِ (بيل) أَنَّ البَرامجَ السريعة الإيقاعِ لا تَتركُ إلا القليلَ منَ الوقتِ للاستجابةِ والتَّأمُلِ، وهُما مُهمَّانِ في الخِبرةِ التَّعليميَّةِ للطِّفلِ، وهذا يُؤدِّي إلى تقليل سعةِ الانْتباهِ، ونقصِ البِلقائيَّةِ. وحَذِّرَتِ الآباءَ مِنْ أَنَّ مِثُلَ هذهِ البَرامِجِ لا تُعِدُّ الأطفالَ للتَّعلُّمِ أو اللَّعِبِ جيَّدًا بَعدَ إغلاق جِهازِ التَلفزيونِ.
وأَظْهَرَتْ دراساتٌ أُخرى أَنَّ الأطفالَ يَستمتعونَ حقًّا بمُشاهدةٍ مِثْلِ هذهِ البَرامجِ، وقدْ يَكونونَ في حالةِ تَتَبُّهِ تامَ أثناءَ مُشاهدتِها، إلَا أَنَّ فَهمَهم لِمَا يَحدُثُ على الشَّاشةِ ضئيلَ جدًّا. وبِقياسِ مَدى فَهُم أَطفالِ ما قَبْلَ المَدرسةِ لبرنامَجٍ تِلفزيونيِّ مُخصّصٍ لِمرحلتهم السَنِيَةِ، باسْتخدامِ طريقةِ تقييمٍ مُقنَّنةٍ، كانتِ النَّتيجةُ أنَّ أَعغلبيَّةَ الأطفال فَهِمَتْ أقلّْ مِنْ نصفِ المعلوماتِ مَوضوعِ الاختبارِ. ولَمَّا لمْ يُظهرِ الأطفالُ الذينَ وُجَهتْ إليهِم بَعْضُ
الأُسئلةِ أَثناءَ البَرنامجِ استيعابًا أَفضلَ مِنْ أُولئكَ الذين طُرِحَتْ عليهِم جَميعُ الأَسئلةِ عندَ نِهايةِ البَرنامجِ، فقَدٍ اسْتُبعِدَ اختمالُ أَنْ تكونَ الذَّاكرةُ لا الفهمُ العَامِلَ الأهمُّ.

وفي دراسةٍ أُخرى، عُرِضَ على أَطفالٍ في سنِّ الرّابعةِ فِيلمَّ تَضمَّنَ قِيامَ رجلٍ بعشرينَ عملًا، وأُخبِرَ الأطفالُ قبلَ المُشاهدةِ أنَّهُ سيُطلَبُ إليهم تاليًا القِيامُ بتلك الأعمالِ، لَكِنَ الأطفال لمْ يَستطيعوا القيامَ إلَّاّ بسيَّةٍ مِنها فقطْ. فِي ما أُعيدَتِ التَّجربَةُ معَ مَجموعةٍ أُخرى بصحْبَةِ أَحدِ المُشرِفينَ الذي قامَ بتقديمِ وَصْفٍ شَفَهِيَّ لِكلِّ عمل ظَهَرَ في الفيلمِ، وَأَظْهَرَتِ المَجموعةُ فَهْمَا أكبرَ كثيرًا مِنْ سابقَتِها.


وَأَظْهَرَتْ دراساتٌ عِلْميَّةٌ أَنَّ ثَمّْةَ جَوانِبَ فِي تُمُوِّ الدِّماغِ قَدْ تَتَأثَرُ بصورةٍ جوهريَّةٍ بالتَّعرُّضِ المُنتَظَمِ إلى التَّجربةِ التِلفزيونيَّةِ، ويتَّصِلُ بَعضها بِالطَّرائقِ الخَاصَّةِ التي تُنظِّمُ عَمَلَ الدِّماغِ في التَّعامُلِ معَ المَادَّةِ اللَّفظيَّةِ وغيرِ اللَّفظيَّةِ. إنَّ النَّشاطاتِ العقليَّةَ غيرَ اللَّفظيَّةِ بالنِّسبةِ إلى الرَّاشدينَ تَحمِلُ دَلالاتِ الاسترخاءِ مِنْ حرارةِ التُّفكيرِ المَنطِقيِّ العاديّ، وتُحقَّقُ نَوعًا مِنَ الأمْنِ والهُدوءِ. أمَّا بالنَّسبةِ إلى الأطفالِ الصِّغارِ، الذين يَمرُّونَ بِسنواتِ تَكوينِهم وتَعلّمِهِم اللُّغويّ، فَإنَّ أَيَّ نُكوصٍ مُمتَدٍ في الأداءِ العقليّ غيرِ اللّفظي، على غِرارِ ما تُقدِّمُهُ التَّجربةُ التِلَفزيونيَّةُ، لا بدَّ مِنَ النَّظَرِ إليهِ كانتكاسةٍ مُحتَّمَلَةِ، فَمَعَ استقبالِهم الكلماتِ والصُّورَ التِّلِيفزيونيَّة ساعةً بعدَ ساعةٍ، ويومًا بعدَ يومٍ، ومعَ قِلَّةِ المَجهودِ العقليِّ الذي يَتَطلَّبُهُ تَشكيلُ أَفكارِهم وَمَشاعرِهم الخاصّةِ،
وإفراغُها في كلِماتٍ، ومعَ استرخابهم سنةً بعدَ سنةٍ، يَستقرُّ لدَيهم نمط يُؤكِّدُ المَعرفة غيرَ اللْفَظيَّةِ. إنَّ لدى الأطفالِ حاجة داخليَّةً إلى النَّشاطِ العقليَ، إِنَهم "أجهزةٌ تَعلُميَّةٌ"، و"عقولَ مُمتَصَّةٌ"، ومَخلوقاتٌ نَهِمَةٌ للخِبرةِ، ولا يَتطلّبُ النُّموُّ اللُّغويُّ الأمثلُ للأطفالِ مُجرَّدَ فُرَص كافيةٍ، بلْ وافرةٍ للمُمارسةِ اليدويَّةِ، والتَّعلُّمِ، وتَوليفِ الخِبرةِ. وكشفَتْ دراسةٌ مُتميَّزَةٍ كانَ هَدَفُها اسْتجلاءَ العَلاقةِ بينَ المُشاهَدَةِ التَلفزيونيَّةِ ولغةِ الكلامِ لِأطفالِ ما قبلَ المَدرسةِ، عنْ عَلاقةٍ عكْسيَّةٍ بينَ وَقتِ المُشاهدَةِ والأداءِ فِي اخْتباراتِ النُّموِّ اللُّغويّ؛ ففي هذهِ الدِّراسةِ أظهرَ الأطفالُ الذينَ شَاهدوا التِّلّفزيونَ بكثرةٍ في المنزِلِ مُستوياتٍ لغويَّةً مُتدنَّيَةً، وقَدَّمَت دليلا إضافيًّا على أَنَّ نَقصًا خطيرًا قدْ حدثَ في القُدراتِ اللَّفظيَّةِ لِهؤلاء الأطفالِ.

 

بتصرف عن كتاب: الأطفال والإدمان التّلفزيونيّ/ ماري وين/ ترجمة عبد الفتاح الصبحيّ/ سلسلة عالم
المعرفة/ المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب/ الكويت/ العدد 1999/247.

 

Jo Academy Logo