فيتامين B12 في حياتنا
الفيتاميناتُ مُركَّباتٌ عُضويَّةٌ يحتاجُ إليها الجسمُ لِمُجمل وظائفه الحيويَّة، وثمَّة ثلاثةَ عشرَ نوعًا من الفيتاميناتِ، وهي مُصنَّفةٌ تاريخيًّا حسبَ الحُروف الأبجديَّة، ومنها: فيتامين (A)، وفيتامين (B) بأنواعِه، وفيتامين (C)، وفيتامين (D)، وغيرها. وهي مُركَّباتٌ مُؤثّرةٌ بشدَّةٍ في صحَّة الإنسان. والافتقار التامُّ إلى نوعٍ مُعيَّنٍ منها لفترةٍ مُعيَّنةٍ من الوقتِ يُؤدّي إلى ظاهرةِ النَّقص، الَّتي تُؤدّي لاحقًا إلى الوفاةِ مع مُرورِ الوقتِ؛ فهيَ الَّتي تَضمَنُ أداءً صحيحًا لعمليَّة الأيضِ (عمليَّة بناء الخلايا الحيَّة)، وكثيرٍ من التَّفاعلات الكيميائيَّة في الجسم لا تتمُّ دونها.
إنَّ جَودة التَّزوّد بالفيتامين تعتمدُ على ثلاثةِ عواملَ، هي: الطَّعامُ الَّذي نتناولُهُ، وحالتُنا الصِّحيَّةُ، والظُّروفُ الشَّخصيَّةُ الَّتي نمرُّ بها، وإِنَّ اتّباعَ نظامٍ غذائيٍّ صحّي أمرٌ أساسٌ في تحقيقِ توازُن الفيتاميناتِ في الجسم بحَسَبِ هذه العواملِ. وسنُسلّطُ الضَّوءَ هنا على نَقصِ أَحَدِ هذه الفيتاميناتِ، وأَسبابِهِ، وعَلاماتِهِ، وأَثَرِهِ على الإنسانِ، وهُوَ: فيتامين (B12).
حتَّى بدايةِ القَرنِ العِشرينَ، كانَ ثمَّة العديدُ من الوفياتِ بسببِ مرضٍ كانَ مَجهولًا في الماضي، ويُعدُّ علاجُهُ سَهلًا اليومَ، وهُوَ فقرُ الدَّم، الَّذي يُعدُّ الشُّحوبُ الشَّديدُ أَهَمَّ مَظاهرِهِ. خلالَ العام 1920 حَمَلَ الطبيبُ الأمريكيُّ (جورج مينوت) الأملَ إلى الكثيرِ من النَّاسِ الَّذينَ يُعانونَ من هذا المرضِ، ووفقًا لِنظريَّتِهِ فَإِنَّ هذا المرضَ يُصيبُ الأشخاصَ المُصابينَ بتلفٍ في الكبدِ، وكانَ العلاجُ الَّذي اقترحَهُ آنذاكَ مَزجَ كبدٍ نَيِّئٍ وَهَرْسِهِ معَ حامضٍ وبصلٍ وبعضِ الأعشابِ، وكانَ العديدُ من المرضى يتحسَّنونَ لدى التزامهم بهذا العلاجِ، إِلَّا أَنَّ مُعظمَهُمْ كانَ يُصابُ بالغثيانِ لدى مُشاهدةِ الكبدِ النَّيّئ. وَضَعَتْ هذه النَّتائِجُ العُلماءَ على المَسارِ الصَّحيح، وفي العامِ (ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعةٍ وثلاثينَ 1934) نالَ الدُّكتورُ (مينوت) جائزةَ نوبل عَنْ إِنجازاتِهِ في هذا المجالِ، ولم يُكتشَفِ الـ(كوبالامين) (Cobalamin)، وهُوَ الاسمُ الكيميائيُّ لفيتامين (B12) إِلَّا بَعْدَ أَربعةَ عَشَرَ عامًا من تلكِ الفترةِ؛ ففي العامِ (ألفٍ وتسعمئةٍ وثمانيةٍ وأربعينَ 1948) جَرى لأوَّلِ مرَّةٍ عَزْلُ غرامٍ واحدٍ مِنْ سائلٍ أَحمَرَ من (أَربعةِ آلافِ 4000 كيلوغرامٍ) من الكبدِ، هذا السَّائِلُ كانَ (الكوبالامين).
ومعَ أَنَّ هذا الفيتامينَ غيرُ مُتورّطٍ في جميعِ التَّفاعلاتِ الَّتي تَحصُلُ في الجسمِ، إِلَّا أَنَّ الدَّورَ الَّذي يقومُ به شديدُ الأهميَّةِ؛ فهُوَ ضروريٌّ في تكوين خلايا الدَّمِ الحمراءِ في لُبِّ العظمِ ما دامَ الإنسانُ على قيدِ الحياةِ، فهُوَ الفيتامينُ الَّذي يُحافظُ على نضارةِ الدَّم. وإِنْ غابَ (الكوبالامين) فَإِنَّ بعضَ التَّفاعلاتِ في عمليَّةِ أَيضِ الكربوهيدراتِ والبروتينِ والدُّهونِ لن تَحصُلَ، وَهِيَ تَفاعُلاتٌ ضروريَّةٌ جدًّا للكثيرِ من العمليَّاتِ الحيويَّةِ المُهمَّةِ في الجسمِ. كما أَنَّ النَّقصَ في هذا الفيتامينِ يُضعِفُ النُّموَّ؛ ولذلكَ هُوَ مُهمٌّ جدًّا للصِّغارِ والمُراهقينَ، وهُوَ ضروريٌّ لتجديدِ عددٍ هائلٍ من الخلايا في فترةٍ قصيرةٍ إذا اسْتَدعَتِ إلى الحاجةِ ذلكَ، ومن ذلكَ عمليَّةُ تكوينِ أَنسجةِ الأعصابِ، ولذلكَ يُستعمَلُ فيتامين (B12) في تركيبِ العقاقيرِ الَّتي تُعالِجُ الآلامَ العصبيَّةَ والتهابَ العَصَبِ.
أَمَّا فقرُ الدَّمِ المُدمِّرُ فهُوَ المرضُ النَّاتجُ عَنْ نقصِ فيتامين (B12) الكلاسيكيّ، وقد كانَ هذا المرضُ مَخيفًا جدًّا قبلَ اكتشافِ الفيتامين، وكانَ الموتُ النِّهايَةَ الحتميَّةَ للمُصابينَ بِهِ. وأعراضُهُ الظَّاهرةُ: شُحوبُ البَشَرَةِ واصفرارُها، والشُّعورُ بالتَّعَبِ والإرهاقِ، واللِّسانُ المُلتهبُ، والوَخْزُ في الأطرافِ، وقَدْ يَتسبَّبُ بالشَّللِ، ويُمكنُ مُلاحظةُ الدَّلائلِ الكيميائيَّةِ تَحتَ المِجهرِ؛ ومنها: تحوُّلُ الخلايا، وخاصَّةً خلايا جهازِ تكوينِ الدَّمِ.
أَمَّا الأسبابُ الرَّئيسةُ لِنَقصِ (الكوبالامين) فَهِيَ: الاضطراباتُ الهَضميَّةُ، مِثلُ التهابِ المَعِدَةِ المُزمِنِ أَو أمراضِ الأمعاءِ الدَّقيقةِ، وقد تُسبِّبُهُ بعضُ العقاقيرِ والموادِّ السَّامَّةِ؛ كالأدويةِ المُضادَّةِ للتَّشنُّجِ والسُّلِّ، وبعضِ المُضادَّاتِ الحيويَّةِ، وذلكَ أَنَّها قد تَعملُ حاجزًا يمنعُ امتصاصَ الفيتامينِ. وخِلافًا لِما هُوَ مُتوقَّعٌ، فَإِنَّهُ نادرًا ما كانَ سُوءُ التَّغذيةِ سببًا مِنْ أَسبابِ نَقصِهِ، كما أَنَّ مِنَ الضَّروريِّ الانتباهُ إلى أَنَّ طهيَ الطَّعامِ تَحْتَ دَرَجةِ حرارةٍ مُرتفعةٍ يُفقِدُها الكثيرَ مِنْ مُحتوياتِها من هذا الفيتامين.
إِنَّ أفضلَ مَصدَرٍ لفيتامين (B12) هُوَ المُنتجاتُ الحيوانيَّةُ؛ كالكَبِدِ، واللَّحمِ الأَحمرِ، والحليبِ، ومُنتجاتِ الألبانِ، والسَّمكِ، والبيضِ. وتناوُلُ (واحدٍ ونصفِ ميكروغرامٍ 1.5) يوميًّا مِنْ هذا الفيتامين كافٍ لِسَدِّ حاجةِ الجِسمِ مِنهُ؛ فالغذاءُ المُتوازِنُ والمُتنوِّعُ يُزوِّدُنا بكميَّةٍ من هذا الفيتامين تفوقُ حاجتَنا، ومخزونُ الجسمِ من الفيتامين يُقدَّرُ بغرامَيْنِ إلى خمسةِ غراماتٍ، وهُوَ موجودٌ في الكبدِ، ويَكفي لِمُدَّةِ أَلفِ يومٍ بَعْدَ تَوقُّفِ تَناوُلِهِ كُليًّا.
إِنَّ (عَشْرَ غراماتٍ) مِنْ كبدِ العِجْلِ أَو بَيْضَتَيْنِ تكفي لِمَنعِ الإِصابةِ بِنَقصِ الفيتامين على مَدًى طويلٍ، وحتَّى لَوْ ظَهَرَ عدمُ تَوازُنٍ في تَناوُلِ الفيتامينِ فَإِنَّ عوارضَ نَقصِهِ لا تَظهرُ إِلَّا بَعْدَ سنواتٍ عدَّةٍ. ويُعدُّ النَّباتيُّونَ مِنْ أَكثرِ الفِئاتِ حاجةً إلى هذا الفيتامين؛ لأَنَّهُمْ لا يُبعِدونَ اللُّحومَ فقط عَنْ غذائِهِمْ، بل الحليبَ والبيضَ، ومُنتجاتِ الألبانِ والأجبانِ، وهنالِكَ خطرٌ حقيقيٌّ مِنْ إِصابةِ الأَطفالِ الرُّضَّعِ للأُمَّهاتِ النَّباتيَّاتِ بهذا النَّقصِ.
المصدر: "أسرار الفيتامينات وتأثيرها في الرشاقة والصحة والجمال" ناتالي كمينجز / ترجمة مركز التعريب والترجمة/ الدار العربية للعلوم/ بيروت/ ط1، 1998.