اللغة العربية8 فصل أول

الثامن

icon

 

فلسفةُ التّفاحةِ

متى يَشرعِ الطّفلُ يستوعبُ شيئًا منَ الأحداثِ الّتي تطرَأُ عليهِ يَشرعْ أيضًا سائلًا عنْ أسبابٍ بعضِها، ممّا يراهُ مستجدًّا أوْ مُغايرًا لِما تكرَّرَ لهُ وألِفَهُ، يسألُ مثلًا: لماذا لا يَخْطفُ الكلبُ قطعةَ الجُبنِ عنِ المائدةِ، وهوَ يَعهدُ الكلبَ يأكلُ القطعةَ نفسَها إذا رآها على الأرضِ؟ ولماذا ليسَ لهُ نَدبةٌ في يدِهِ كما في يدِ آخرَ رآهُ لأوّلِ مرّةٍ، وهوَ يَظنُّ أنَّ النَّدبةَ خِلقةٌ في اليدِ؟ ونحوَ ذلكَ؛ أعني أنّهُ منذُ يَشرعُ يَظنُّ أنَّ لكلِّ شيءٍ سببًا، وتَكثرُ على الطّفلِ الأسئلةُ كما هوَ معلومٌ.

ولكنّهُ لا يسألُ البَّْةَ لماذا تَطلعُ الشّمسُ كلَّ صباحِ منْ وراءِ أفقِ الشّرقِ وتَغرُبُ وراءَ أفقِ الغربِ؟ ولا يسألُ لماذا لا يسَتطيعُ أنْ يرفعَ حجرًا كبيرًا وهوَ يستطيعُ أنْ يرفعَ حصاةً؟ ولا يسألُ لماذا العصفورُ يطيرُ وهوَ لا يطيرُ؟

إنَّ ما وعى لهُ أوَّلا وهوَ يراهُ كلَّ يومٍ لا يَسألُ عنْ سببٍ لهُ؛ لاعتقادِهِ أنّهُ أمرٌ طبيعيٌّ، فكأنّهُ بَدَهِيٌّ عندهُ، وأمّا ما يُسْتجدُّ لإدراكِهِ وشعورِهِ فيَوَدُّ أنْ یعرفَ لهُ سببًا.

ما أكثرَ البَدَهِيّاتِ عندَ الطّفلِ! فطلوعُ الشّمسِ وغيابُها وإحراقُ النّارِ وألمُهُ، والجوع والعطشُ والنّعاسُ إلى غيرِ ذلكَ ممّا لا يُحْصَى كلّهُا بَدهيّاتٌ عندَ الطّفلِ، ولكنْ عندَ النّاضجينَ ولا سِيّما المُثقّفينَ فلكلِّ هذهِ أسبابٌ أوْ لا بدَّ منْ تعليلها وتفسيرِها وتبيانِ عللٍ لها، حتّى لطلوعِ الشّمسِ كلَّ صباحٍ وغيابِها كلَّ مساءٍ أسبابٌ كما هوَ معلومٌ مهما ترَاءَيا بَدَاهَتينٍ.

وقدْ تطوَّعَ بعضُهمْ لإنكارِ كلِّ بَدَهيَّةٍ حتّى البدهيّاتِ الرياضيّةِ كقولِكَ: ((الخطُّ المستقيمُ هوَ أقصرُ مسافةٍ بينَ نقطتينٍ» و («الخطّانِ المتوازيانِ لا يلتقيانٍِ) و ((العددانِ اللّذانِ يُساوي كلُّ منهُما عددًا ثالثًا هما  مُتساويانِ)). والحقيقةُ أنَّ هذهِ الأوّليَّاتِ ليستْ بدهيّاتٍ، وإنّما هيَ تعريفاتٌ، فإذا قلْنا: الخطُّ المستقيمُ هوَ أقربُ مسافةٍ بينَ نقطتينٍ عَنينا أنَّ النّاسَ اصطلَحُوا  على تسميةِ أقربِ مسافةٍ بينَ نقطتينِ بالخطِّ المستقيمِ، فكأنَّ الكلمةَ وتفسيرَها مترادفانٍ، وكذلكَ سَمَّوا الخطّينِ اللّذينِ كيفَما امتدَّا على سطحِ واحدٍ لا يلتقيانِ خطّينِ متوازيينٍ، وقضيةُ الخطوطِ أوْ الكميّاتِ الثّلاثَةِ المتساويةِ كلٌّ منهما يساوي كلَّاّ منَ الخطّينِ الآخرينِ أو الكميَّتَينِ الأُخرِيينِ هيَ تحصيلُ حاصلٍ، كما أنَّ الأربعةَ تُساوي 2 و 2 هي تحصيلُ حاصلٍ.

معنى ذلكَ أنّهُ ليسَ ثمّةَ شيءٌ بَدَهيٌّ بالمعنى الّذي نَقصِدهُ، العقلُ لا يعرفُ شيئًا بالبداهةِ كما نَظنُّ، وإنّما يعرفُه بتكرارِ الملاحظةِ حتّى يعتقدَ أنّهُ شيءٌ طبيعيٌّ لا يحتاجُ إلى برهانٍ فسمّاهُ ((بَدَهِيّةً))، ولا شيءَ أشدُّ بداهةً منْ قولكَ: لا يوجدُ شيءٌ في مكانينٍ في وقتٍ واحدٍ معًا.

وإذا سألتَهُ: لماذا تسقطُ التّفاحةُ عنِ الشّجرةِ إذا تقادمَ نُضجُها؟ لماذا لا ترتفعُ في الفضاءِ؟ استجنَّكَ لهذا السّؤالِ؛ لآنّهُ لا يرى سببًا لهذا الشّيءِ المألوفِ عندَ جميع العقولِ منذُ آدمَ إلى اليوم، وهوَ أنَّ الأشياءَ تسقطُ إلى تحتُ ولا ترتفَعُ إلى فوقُ منْ تلقاءِ نفسِها، أو إذا لم تُقْذَفْ قذفًا بقوَّةٍ، وأخيرًا مصيرُها أنْ تهبطَ إلى تحتُ، هذا أمرٌ بدهيٌّ عندَهُ، كما أنَّ طلوعَ الشّمسَ صباحَ غدٍ، وموجَ البحرِ وما إلى ذلكَ، كلُّ هذا بدهيّاتٌ عندَهُ. ولكنَّ نيوتنَ لمْ يسلِّمْ أنَّ سقوطَ التّفاحةِ شيءٌ بدهيٌّ، بلْ قدَّرَ لهُ سببًا، وجعلَ يفكّرِ في السّببِ. لمْ يخطرْ لأحدٍ أنْ يبحثَ عنْ هذا السّرِ العجيبِ الغامضِ، ولكنَّ نيوتنَ لمْ يقتنعْ بهذهِ البداهةِ، فَرَامَ فَهْمَ لماذا سقطتِ التّفاحةُ أمامَ نظرِهِ منْ تلقاءِ نفسِها ولمْ ترتفعْ إلى فوقُ؟ اكتشفَ أنَّ لذلكَ السّقوطِ فرضيّةً نظاميّةً رياضيّةً، وظهرَ بعدئذٍ للعلماءِ أنَّ ظواهرَ الطّبيعةِ تحتاجُ تدبُّرًا، وكذلكَ لسقوطِ الأجسامِ منْ  أعلى إلى أسفلَ ناموس طبيعيٌّ رياضيٍّ، وهوَ ما جعل نيوتنَ يفكّرُ ويبحثُ عنْ هذا النّاموسِ.

Jo Academy Logo