أتعرَّفُ جوَّ النّصِّ
في القَصصِ القُرآنيِّ عِبَرٌ وعِظاتٌ، ومِنْ آيَاتِهِ نُفيدُ مِنْ تجاربِ القدماءِ وخبراتِهِم في مواقفَ حياتيّةٍ كثيرةٍ نَمُرُّ نحنُ بمثلِها؛ فتزدادُ علمًا وحكمةً، ونتعلّمُ أُصولَ الخطابِ لتتهذّبَ قلوبُنا، وتصلحَ حياتُنا. بينَ أيدينا مقتطفاتٌ مِنَ القرآنِ الكريمِ، يعرضُ كلٌّ منها جانبًا إنسانيًّاً واعتذاريًّا، فالآياتُ الكريمةُ مِنْ:
- سورةِ (يوسف) تعرضُ جانبًا مِنْ عَلاقةِ يوسفَ بإخوتِه، وما جرى بينَهم؛ لتنتهيَ أزمةُ الإخوةِ بالإقرارِ بالذّنبِ وبطلبِ المغفرةِ.
- سورةِ (الأعراف) تعرضُ جانبًا آخرَ مِنْ آداب الاعتذارِ، وهو خاصٌّ بتحمّل المسؤوليّةِ. فقد ظهرَ موسى عليه السّلامُ مراجعًا ذاتَهُ عندما سمعَ مِنْ هارونَ عليه السّلامُ، فدعا اللّهَ مُعتذرًا تائبًا داعيًا بالمغفرةِ والرّحمةِ لكليهما.
- سورةِ (الكهف) تقدّمُ جانبًا مِنْ آدابِ العلاقةِ في طلبِ العلمِ بينَ المُعلِّمِ والمُتَعَلِّم، وقد أظهرتِ الآياتُ الخُلُقَ الرّفيعَ الّذي تحلّى به موسى عليه السّلامُ، وهو النّبيُّ والرّسولُ، عندما تعلّمَ مِنَ العبدِ الصّالحِ.
📝جوّ النص
النص يدور في أجواء إنسانية راقية مستمدة من القرآن الكريم، حيث يسلّط الضوء على قيم عظيمة مثل:
- الاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة.
- تحمّل المسؤولية والاعتذار.
- التواضع في طلب العلم.
وكلها قيم تبني شخصية الإنسان، وتهذّب قلبه، وتُصلح حياته.
الفقرة الأولى:
قالَ تعالى في ذِكِرِ قصّةِ يوسفَ - عليه السّلامُ - وإخوتِه:
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) (سورة يوسف: 88-98)
|
الكلمة |
المعنى |
|
مُزجاةٌ |
قليلةٌ يسيرةٌ، قيمتها أقلُّ من ثمن ما يحتاجون شرائه |
|
الكَيْل |
التقدير بالكيل |
|
جاهلون |
لا تعقلون ما تفعلون بسبب طيشكم |
|
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا |
أنعم الله علينا وأكرمنا |
|
لا تثريب عليكم |
لا لوم ولا تانيب |
|
فصلت العيرُ |
انفصلت الإبل عن القافلة العائدة من مصر متوجّهةََ صوب مساكن آل يعقوب |
|
تفنِّدون |
تستخفون برأيي وتصفونني بالسّفه وخفّة العقل |
|
ضَلَالِكَ القَدِيمِ |
انشغالك القديم بيوسف ووهمك بشأنه (في زعمهم) |
|
البَشِير |
الرسول الذي جاء بالخبر السار |
|
أثرك |
فضلك الله علينا واختارك دوننا |
الفكرة الرئيسة: الفكرة هي أن أدب الاعتذار والاعتراف بالخطأ قيمة عظيمة، كما ظهر عندما اعترف إخوة يوسف بخطئهم وطلبوا المغفرة، فتلقوا العفو والرحمة، ليعلمنا أن الاعتراف بالذنب بأسلوب محترم ومتّسم بالتوبة يقربنا من الله ويصلح العلاقات بين الناس
شرح الآيات:
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) (88) :
دخل إخوة يوسف عليه وهم في شدة الجوع والفقر، ومعهم بضاعة قليلة رديئة ،وطلبوا من يوسف أن يعطيهم طعامًا كما كان يفعل من قبل وأن يتفضّل عليهم بقبول تلك البضاعة الرديئة أو بزيادة فوق حقهم،
(قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) (89)قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (90) :
يوسف عليه السلام عندما سمع شكوى إخوته، كشف عن نفسه لإخوته وعاتبهم على ما فعلوه به وبأخيه حين غلبهم الجهل والطيش، فأعربوا عن دهشتهم قائلين: "أأنت يوسف؟" فأجابهم: "أنا يوسف وهذا أخي". وبيّن لهم أن الله قد أنعم عليهما بالاجتماع بعد التفرقة الطويلة، مؤكدًا أن الصبر والتقوى هما سبب كل فضل، وأن الله لا يضيع أجر المحسنين.
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (91) :
يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق، والسعة والملك ، والتصرف والنبوة أيضا وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه.
(قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (92):
يوسف عليه السلام عفى عن إخوته وقال لهم: "لا تثريب عليكم اليوم"، أي لا لوم ولا تأنيب عليهم، وزاد عليهم الدعاء بالمغفرة من الله، ليبيّن لهم أن الله يستر ذنوبهم برحمته الواسعة.
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (93) :
يوسف عليه السلام أمر إخوته أن يأخذوا قميصه ويلقوه على وجه أبيه ليعود بصره بعد أن فقد بصره بسبب الحزن، وطلب منهم أن يأتوه بكل أفراد العائلة ليجتمعوا جميعًا.
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ) (94) (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) (95):
بعد خروج القافلة من مصر، شعر يعقوب عليه السلام برائحة يوسف قادمة من بعيد، فتعجب وقال: "إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون"، أي لولا أن تتهموني بالخيال أو التهكم. فقالوا له أنك متمسك بحب يوسف ولا تستطيع نسيانه.
(فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (96):
عندما جاء البشير بالقميص وألقاه على وجه يعقوب، عاد إليه بصره. عندها قال لبنيه: "ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون"، أي يؤكد لهم أنه كان على يقين من قدرة الله على إعادة يوسف إليهم، وأن ما حدث هو بقدرة الله وعلمه المسبق.
(قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) (97) (قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (98):
حين رأى الإخوة عودة يوسف واجتماع العائلة، توجهوا إلى أبيهم يعقوب عليه السلام بتواضع، واعترافوا بخطئهم راجين منه أن يدعو لهم بالمغفرة. فأجابهم يعقوب عليه السلام بأنه سيستغفر لهم ربه في وقت مخصوص يُرجى فيه استجابة الدعاء.
الفقرة الثانية
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) سورة الأعراف: (148-153)
الفكرة الرئيسة: الفكرة الرئيسة في هذه الآيات أن أهل الخطأ يجب أن يتحلوا بأدب الاعتذار والتوبة، كما فعل بني إسرائيل حين اعترفوا بخطئهم بعد عبادة العجل وطلبوا المغفرة، وموسى عليه السلام علمهم أن الاعتراف بالذنب والتوبة إلى الله مع الاحترام والصدق يُبعد الغضب ويورث رحمة الله، بينما الاستهتار والطغيان يؤدي إلى العقاب.
|
الكلمة |
المعنى |
|
من بعده |
من بعد ذهاب موسى إلى الطّور لمناجاة ربِّه |
|
حُليّهِم |
ذهبهم وفضتهم وما يزينون به أنفسهم. |
|
خوارٌ |
صوت كصوت البقر، بسبب مرور الرّيح من تجويفِِ جعلوه فيه. |
شرح الآيات:
( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) (148):
بعد أن غاب موسى عن قومه للتواصل مع الله، اتخذ بعض بنو إسرائيل من حليهم عجلاً يعبدونه. وهذا العجل كان مجرد جسد لا يتكلم ولا يهدي الناس إلى الخير، فعبادته كانت ضلالًا وظلمًا لأنفسهم.
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (149):
أدرك بنو إسرائيل خطأهم وندموا عندما عاد موسى إليهم.
وقالوا: "لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين"، أي لو لم يغفر الله لنا ويعطف علينا برحمته لنخسر في الدنيا والآخرة.
(وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (150) :
عندما عاد موسى عليه السلام إلى قومه وجدهم قد عبدوا العجل، فغضب وحزن جدًا لأنهم خرجوا عن أمر الله وضلوا الطريق، فقال لهم إن ما فعلوه سيء وأسرعوا في مخالفة أمر الله قبل أوانه، ثم ألقى الألواح غضبًا، وأخذ أخاه هارون ليحميه من القوم الذين كادوا أن يؤذوه، فطلب هارون ألا يشمت به الأعداء ولا يجعله مع الظالمين.
(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (151):
عندما رأى موسى عليه السلام أن أخاه هارون لم يقصر في واجبه ولم يشارك في عبادة العجل، طلب المغفرة لنفسه ولأخيه عن أي خطأ سابق، وطلب أيضًا أن يدخلهما الله في رحمته.
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) (152) :
الآية تخبرنا أن الذين عبدوا العجل من بني إسرائيل سيصيبهم غضب الله وذلّة وهوان في حياتهم الدنيا بسبب كفرهم وعصيانهم، وهذا جزاء لمن لم يتوب. والآية تشير أيضًا إلى أن الله سيجازي كل من افترى على دينه وكذب على الله بعد معرفته بوحدانيته، فالذل والغضب هما نتيجة العصيان والكفر.
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (153):
الآية تبيّن أن الله يغفر لكل من ارتكب المعاصي ثم تاب إليه وآمن. سواء كانت سيئاته صغيرة أو كبيرة، أو كفرًا أو غيره، فإن الله رحيم وغفور ويقبل توبته، كما قبل توبة من عبدوا العجل بعد كفرهم.
الفقرة الثالثة
فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (76) فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا (78) سورة الكهف: (65-78)
|
الكلمة |
المعنى |
|
أتيناه |
أعطيناه |
|
لدُنا |
عندنا |
|
رشَدًا |
طريق مستقيم وحكمة في السلوك |
|
لم تُحِط |
لم تُدرك أو لم تعرف |
|
شيئا إمرا |
شيئًا عظيمًا |
|
شيئا نكرا |
شيئًا عظيمًا من المنكر |
|
تأويل |
تفسير أو شرح معنى الأمور التي تبدو غريبة |
الفكرة الرئيسة: تقدّم الآيات جانبًا من آدابِ العلاقة في طلب العلم بين المعلم والمتعلّم، وقد أظهرت الخُلُقَ الرّفيع الذي تحلّى به موسى عليه السلام، حين صبر واطّاع العبد الصالح الخضر، وتعلّم منه الحكمة والعلم الذي خصّه الله به.
شرح الآيات:
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمً) (65) :
الآية تعني أن موسى عليه السلام التقى بالعبد الصالح الخضر، الذي منحه الله رحمة وعلمًا خاصًا من عنده، وهو علم لا يملكه إلا الله، ليعلّمه حكمة وأسرارًا لا تظهر للناس بسهولة.
(قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (66) (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (67):
موسى عليه السلام طلب من الخضر بلطف أن يصاحبه ليتعلم من علمه، فأجابه الخضر بأن صحبته ستكون صعبة عليه، لأنه لن يستطيع الصبر على ما يراه من أفعاله المخالفة لفهمه.
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) (68) :
يقول الخضر لموسى إنك لن تصبر على ما لم تعرف حكمته، فأنت لا تعلم الحكمة الباطنة وراء أفعالي، بينما أنا أعلمها بعلم من الله.
(قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) (69) :
قال موسى للخضر سأصبر على ما قد أرى من أفعال قد تبدو غريبة أو مخالفة لشريعتي، معتمدًا على الله في الصبر والتحمل ولن أخالفك في أي أمر، وسألتزم بطاعتك فيما تفعل.
(قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) (70) :
في هذه الآية، يضع الخضر شرطًا لموسى قبل أن يرافقه، وهو عدم السؤال عن أي أمر يراه موسى من أفعاله حتى يأتي هو بنفسه بالتفسير أو الذكر لما فعله.
(فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) (71) :
أثناء الرحلة، ركبا في سفينة حملهما أهلها مجانًا ، فلما دخلت السفينة في البحر، قام الخضر بخرقها، فلم يستطع موسى كبح نفسه عن التعجب والاعتراض قائلاً: "أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرا"، أي أفعالًا غريبة وغير مفهومة بالنسبة له، واللام هنا للتعقيب على ما سبق، وليست سببًا.
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (72) (قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) (73) :
الخضر يذكّر موسى بشرط صحبته له. أي: هذا الفعل الذي فعله الخضر كان مقصودًا، ومن الأمور التي اشترط على موسى ألا ينكرها أو يسأل عنها قبل أن يشرح له الحكمة منها، لأن موسى لم يطلع بعد على الغاية والمصلحة الباطنة لهذا العمل، فطلب منه موسى ألا يعاقبه على نسيانه للأمر السابق، وألا يجعل عليه صعوبة أو شدة.
(فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) (74) :
الآية تصف حادثة قتل الخضر لغلام صغير، وكان الغلام بريئًا ولم يرتكب ذنبًا. وعندما رأى موسى ذلك، استغرب واستنكر الفعل بشدة، فقال: "أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا"، أي: قتلته بلا سبب شرعي وهو أمر غريب ومخالف للعرف والعدل.
(قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (75) (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا) (76) :
الخضر ذكّر موسى بشرط الصبر، وأوضح له أن ما يبدو غريبًا في أفعاله يحمل حكمة خفية لم يطّلع عليها موسى بعد. فقال موسى: إذا اعترضت أو سألت مرة أخرى بعد هذا التنبيه، فلا تُبقِني معك، لأنك بذلك تكون قد أعذرتني وأعطيتني أكثر من فرصة.
(فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) (77) (قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ) (78):
عندما وصلا القرية ورفض أهلها ضيافتهما، أقام الخضر جدارًا مائلًا دون أن يأخذ أجرًا، فاستغرب موسى وقال له: كان من الممكن أن تأخذ مقابل إصلاحه. عندها قال الخضر: هذا هو موعد فراقنا، لأنك خالفت شرط الصبر، وسأبين لك الحكمة من أفعالي التي لم تستطع الصبر عليها.