نصّ الاستماع :
يحدّثنا السّندباد البحريّ عن رحلته الثّانية قائلًا: اشتقتُ إلى السّفر وركوب البحر، فاشتريت بضائع كثيرة، وسافرت من بغداد إلى البصرة، فأبحرْتُ معَ جماعةٍ منَ التُجارِ ، حتى بلغنا جزيرةً كبيرةً جميلة المنظر، فيها كثير من الأشجار والفاكهة ، تتخللها الجداول والأنهارُ؛ فنزلنا بها، فلم نجد فيها أحدًا مِنَ النَّاسِ، فأكلنا من فاكهتها، وشربنا من مائها العَذْبِ، ثمّ ذهب أصحابي يجولون في الجزيرة، وجلستُ منفردًا في ظل جرة كبيرة، وأمامي جدول من الماء على جانبيه الأزهار، فأخذتْني سِنَةٌ منَ النَّومِ، وما كدتُ أستيقظ حتّى تملّكني الرّعب والفزع، فقد بحثت عن رفاقي فلم أعثر لهم على أثرٍ ! هنالك علمتُ أنَّ السَّفينة قد أبحرت بهم من دونِ أنْ ينتبه أحد منهم إلى غيابي، ورأيتُ السَّفينة تغيب عن ناظري حتَّى اختفت...، وتلفّتُّ حولي فلم أجد أحدًا، فتسلّقتُ شجرة عالية، ودرتُ ببصري في الجزيرة، فرأيتُ على بُعدِ قبَّةٌ بيضاء عاليةً تلمعُ لمعانًا شديدًا في ضوء الشَّمسِ، فنزلتُ منَ الشَّجرة، وجريتُ إليها بكل قوّتي حتى دَنَوْتُ منها، فرأيتُها شاهقةً، فلمسْتُها بيديّ فإذا هي ملساء، يتعذّرُ الصّعود عليها، وذُرْتُ حولها فلم أرَ لها بابًا ولا منفذًا، فلما قِسْتُ دائرتها، وجدتُها خمسين خطوة .
وبينما أنا أتأمّلها، وجدتُ الدّنيا قد أظلمت، وأقبل عليّ سواد عظيم، حجب عنِّي ضَوْءَ الشَّمس، فتأملتُهُ فإذا هو طائر عظيم الجسم، فَتذَكَّرْتُ في الحالِ ما كنتُ أسمعُهُ منَ المسافرين والتُّجارِ عَنْ طَائِرِ الرُّخٌ، وأدرك أنَّ هذه القبة الكبيرة هي بيضةٌ لَهُ، ولم يكد ينزل طائرُ الرُّخُ، حتّى جلس على البيضة وغطّاها بجناحيه ، فَحَلَلْتُ عِمامتي، وربطتُ نفسي بإحدى رجليه رجاءَ أَن يحملني في اليوم التّالي إلى مكان آخرَ غيرِه هذه الجزيرة النّائية ، وقد تحقّق ظنّي، فلم يكد يطلع الفجر حتّى طارَ ، ثمَّ هبط بي فجأةً إِلى الأَرْضِ ، فَفَكَكْتُ رباطي حالًا، وفرحتُ بالخلاصِ من تلك الجزيرةِ المُقْفِرَةِ...، ولكنَّ فرحي لم يطل، فقد هبط بيَ الرُّخُ إلى وادٍ عميقٍ تُحيطُ بِهِ جبال شاهقة من كلّ جهة، وليس فيها مكان للصّعودِ ، ولا منفذٌ يخرجُ منه الإنسان، ونظرتُ إلى أرض الوادي، فرأيتُ حجارته من الماس، ففرحتُ بذلك فرحًا
شديدًا، ولكنّ فرحي لم يدم طويلًا، فقد رأيتُ في الوادي كثيرًا من الأفاعي الهائلة الّتي تبتلع الفيل بسهولة ، وكانت هذه الأفاعي – لِحُسْنِ حظّي- تختفي في الكهوف والمغارات في أثناءِ النَّهارِ خوفًا منْ طائرِ الرُّخّ، فمشَيْتُ في ذلك الوادي طول النّهار ، ولما جاءَ اللّيلُ أسرعتُ إلى كهف صغير فدخلْتُهُ، وسَدَدْتُ مَنْفَذَهُ بحجرٍ كبير حتى آمن شرَّ الأفاعي. ولمّا طلعَ الصّباحُ وخرجتُ منَ الكَهْفِ ومَشَيْتُ في الوادي، رأيتُ قِطَعًا كبيرةً منَ اللّحم تتساقط إلى جانبي على أرض الوادي منْ أعلى الجبلِ ؛ فتَذَكَّرْتُ ما كنتُ أسْمَعُهُ مِنَ التَّجَارِ عنْ وادي الماس ، وعَنِ الطَّريقةِ العجيبة التي يحصلونَ بها على أحجارِهِ ، وهي أن يذبحوا الخراف، ويسلخوا منها جلدها، ثمّ يلقوا بلحمها الطّريّ إلى أرض ذلك الوادي، فتلتصقُ بِهِ أحجار الماس وتأتي النّسور بعد قليلٍ من من الزّمن فتخطفه وتحمله إلى أعلى الجبل، فيصيحُ بها التّجار، فتهرب منهم خائفةً تاركةً لهم ما معَها مِنَ اللّحم ، فيأخذُ كل منهم ما عَلِقَ بقطعتِهِ منَ الماس تاركًا اللّحم بعد ذلك للنّسور الجائعة.
فبدا لي أمل في النَّجاةِ، وتخيَّرتُ منْ أحجارِ الماسِ أَنفَسَها، ثمَّ نمتُ على ظهري، ووضعتُ فوقي أحد هذهِ الخرافِ المذبوحة وأمسكته بيدي، حتى جاءت النّسور فرفعَتْ تلك اللّحوم، وجاءَ نَسْرٌ كبيرٌ فرفعَ الذَّبيحةَ الَّتِي كنتُ متعلّقا بها، ولم يزل طائرًا حتّى بلغ أعلى الجبل فوضعها عليه، وأسرع التّجارُ إلى النّسور، فخافت وهربت منهم، تاركةً لهم ما معَها مِنَ اللَّحم، فوقفتُ على قدمي، ولم يكد يراني صاحبُ الذّبيحةِ حتى تملَّكَهُ الخوفُ والفَزَعُ، ونظر إلى ذبيحته فلم يجد بها شيئًا من الماس، فصرخ ولطم، فدنوت منهُ وحيَّيْتُهُ فاطمأَنَّ، ثم أعطيته كثيرًا من الماس، وسألني عن قصّتي فأخبرتُهُ بما حدَثَ لي فدُهَشَ، ثم سافرتُ معهم إلى بلادي بغداد. (كامل الكيلاني، السندباد البحري، 2011، بتصرف.