الاستماع / استردادُ بيتِ المَقدِسِ
حانَ الوقتُ لتحريرِ القدسِ. فَقَدْ أَخَذَ قرارَهُ لِتَحريرِ بيتٍ المَقدِسِ، ولَمْ يَأْبَهْ لقولِ الْمُحيطينِ بِهِ حولَ إمكانيَّةِ إصابتهِ، فَأجابَ بأنَّهُ لا يُبالي حتّى لوْ فقدَ كلتا عينيهِ في سبيلِ تحريرٍ بيتِ الَمَقدِسِ. وبينما كانتِ المدينةُ على وشكِ السّقوطِ، أوضحَ صلاحُ الدّينِ أنَّهُ يُفضّلُ أخذَ المدينةِ دونَ إراقةِ الدّماءِ، ولكنَّ مَنْ في الدّاخلِ رفضوا الإِستسلاَم. وهكذا بدأَ الحصارُ، وعلى مدى أسبوع كانَ جيشُ صلاحِ الدّينِ يُمْطِرُ الشُّرُفاتِ بالسِّهامِ والقذائفِ، حتّى استسلمتِ المدَينةُ، وصارَ أهلُها أسرى حربٍ؛ وكانَ معنى هذا أنّ عليهِمُ افتداءَ أنفسِهمْ، وأُمهلَ الصّليبيونَ أربعينَ يومًا لجمعِ الفِدْيَةِ. وعندما مرّتِ الأيّامُ الأربعونَ دفعَ أمراءُ صلاحِ الدّينِ الفِديَةَ عنْ ألفٍ ممّنْ لم يستطيعوا دفعَها. أمّا صلاحُ الدّينِ نفسُهُ فقدْ أطلقَ سراحَ جميعِ الْمسنّينَ الّذينَ عجَزوا عنِ افتداءِ أنفسِهمْ. كانَ تصرّفًا يَشِي بالكرمِ الهائلِ، وبذلكَ اكتسبَ صلاحُ الدّينِ في أثناءِ سقوطِ بيتِ المقْدِسِ إعجابَ الصّليبيّينَ. وقدِ استُغلَّتْ قلّةُ الشّروطِ الّتي فرضَها صلاحُ الدّينِ، وكانَ أكثرُ هؤلاءِ انْتِهازيةً البَطْريرْكُ هيراكليوس؛ فلمْ يفتدِ أحدًا منْ أهلِ مدينتِهِ، وأخرجَ معهُ كنوزَ الكنيسةِ منْ ذهبٍ وأموالٍ، وقدِ اعترضَ أمراءُ صلاحِ الدّينِ على
خروجٍ البَطْرِيَرْكِ بهذهِ الكنوزِ، لكنَّ صلاحَ الدّينِ أشارَ همْ بيدِوِ أنْ يدَعوه، تاركًا للتّاريخ وللنّاسِ أَنْ يتِحكموا عليهِ.
ليس هناكَ تناقض أكبرُ مما كانَ بينَ دخولِ المسلمينَ القدس في عام ألفي ومئةٍ وسبعةٍ وثمانين للميلادِ، والاحتلال الذي تعرضتْ لهُ في احملة الصليبيةِ الأولى سنة الف وتسع وتسعين للميلادِ عندما فاضتْ الشّوارعُ بدماءِ المسلمينَ، فينما ذبعَ الصَّلييونَ منةَ ألف إنسانٍ منْ سكّانِ المدينةِ على مدى عشَرةٍ أَيَام، غادرَ الصّليبيْونَ المدينةَ بأمانٍ، بلْ نشرَ صلاحُ الدّينِ جنودَهُ في أنّحاءِ المدينةِ لضمان ألا يفعَ نهْبٌ أوْ سَلْبٌ، وكانَتْ قوافلُ الصَّليبِينَ المغادرةُ تسيرُ تحتَ حمايةِ المسلمينَ. وحينَّ طلبَ عددٌ منَ المسيحيينَ المحلْيْينَ الإذنَ منْ صلاح الدّينِ لليقاءِ في القدسِ، وافقّ بشرطِ أنْ يدفعوا الجِزِيَةَ، وسمحَ همْ بالتّعيُّدِ بحرّيّةٍ في كتائسهمْ، أمّا المسجدُ الأقصى فقدِ احتاجَ المسلمونَ أيَامًا لننظيفهِ حتّى يُمْكِنَهمْ أن يصلّوا فيه، بعدَ أنْ حوّلَهُ الصّليبْونَ إلى إسطيلٍ للخيولِ.
وفي السَّابعِ والعشرينَ من رجب عامَ حَميسيِتَةٍ وثلاثةٍ وثمانينَ للهجرةِ، في ذكرى الإسراءِ والمعراج، دخل صلاحُ الدّينِ المدينةَ المقدَّسةَ وَسْطَ حشودِ منَ العلماءِ والفقهاءِ والقضاةِ وعامْةٍ النّاسِ، جاؤوا ليشهَدوا هذا الدّخولَ المظفِّرَ إلى القدسِ.
صلاح الذين وإعادة إحياء المذهب الشتّيّ: عبد الرّحمن عزّام.