الدولةُ الأُمويّةُ (الإنجازاتُ الحَضاريّةُ)
أتخيّلُ نَفسي هُناكَ
في أثناءِ زيارتِنا قصْرَ عَمْرة في الباديةِ الأردنيّةِ، أثارَ فُضولي جمالُ الرسومِ والزخارِفِ على جُدرانِ القصْرِ، وتفاجأْتُ بمُستوى الفنونِ التي وصلَ إلَيْها الأُمويّونَ قبلَ مئاتِ السنينَ.
شهِدَتِ الدولةُ الأُمويّةُ تحقيقَ إنجازاتٍ كبيرةٍ سيظلُّ التاريخُ الإسلاميُّ يذكرُها؛ وذلِكَ بسببِ اهتمامِ خُلفائِها بالعديدِ مِنَ الأمورِ التي أدّتْ إلى تطوُّرِها وازدِهارِها.
أوّلًا: الحُكمُ والإدارةُ
تميّزَتِ الدولةُ الأُمويّةُ بإرساءِ نظامِ إدارةٍ حديثٍ للدولةِ، عبرَ تعريبِ العديدِ مِنَ الدواوينِ المتعلِّقةِ بتنظيمِ البريدِ والمُراسلاتِ وتطويرِها، مثلِ ديوانِ الرسائلِ وديوانِ الخاتَمِ وديوانِ البريدِ، وقسَّموا الدولةَ إلى عِدّةِ ولاياتٍ لتسهيلِ إدارةِ شؤونِها، منها: ولايةُ دِمشقَ وولايةُ العراقِ وولايةُ مِصرَ وولايةُ اليمنِ، وعيّنوا على كلِّ ولايةٍ واليًا يقودُ الجيوشَ، ويُحافِظُ على أمنِ الولايةِ، ويُشرِفُ على القضاءِ، ويُسيِّرُ قوافِلَ الحَجِّ.
السببُ:.... لتسهيل إدارةِ شؤونِها.. |
النتيجةُ: تقسيمُ الدولةِ الأُمويّةِ إلى عدّةِ ولاياتٍ. |
ثانيًا: القضاءُ
أوْلى الخُلفاءُ الأمويّونَ اهتمامًا كبيرًا بالقضاءِ، وأوْكلوا للقُضاةِ مهامَّ الفصلِ بينَ الناسِ في النزاعاتِ والخِلافاتِ وقَضايا الزواجِ والميراثِ والأوقافِ، وشؤونِ اليَتامى والأراملِ، والخِلافاتِ التجاريّةِ. واستُحْدِثَ ديوانُ المَظالِمِ الذي يرأسُهُ قاضٍ للنظَرِ في القضايا المَرفوعةِ ضدَّ كِبارِ الدولةِ.
ثالثًا: العلومُ
حرِصَ الأُمويّوَن على الاهتمامِ بالعلومِ، وأنشأوا لذلِكَ المدارسَ التي كانَتْ تُدرِّسُ اللغةَ والشِّعْرَ والخَطابةَ وعلومَ القرآنِ والسنّةِ، وبدأَ في العصرِ الأُمويِّ تنقيطُ الحروفِ العربيّةِ وضبطُها بالحرَكاتِ على يدِ أبي الأسودِ الدؤليِّ، وضبطُ أوزانِ الشعرِ على يدِ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيديِّ. وأخذَ خُلفاءُ بني أُميّةَ يُقرِّبونَ الشعراءَ إلى مجالسِهِم؛ فظهرَ مِنْهُم الأخطلُ شاعرُ مُعاويةَ، والفرَزْدقُ شاعرُ عبدِ الملِكِ بنِ مَروانَ. وكانَ الشعراءُ يُمارِسونَ مَهمّةً تُشبِهُ مهامَّ وسائلِ الإعلامِ الحديثةِ.
الترجمةُ هِيَ عمليّةُ نقلِ النصوصِ المكتوبَةِ مِنَ اللغةِ الأصليّةِ إلى لغةٍ أُخرى للاستفادةِ مِنْها. |
ونشطَتْ حركةُ الترجمةِ بسببِ اهتِمامِ الخُلفاءِ الأُمويِّينَ بتعريبِ مؤسَّساتِ الدولةِ وجعلِ اللغةِ العربيّةِ لغةَ الدولةِ الرسميّةَ فيها، واختلاطِ المسلمينَ بشعوبِ الدولِ التي سيطَروا علَيْها، والاطِّلاعِ على ثقافاتِهِم؛ فعرّبوا الدواوينَ والنقْدَ والمُعاملاتِ جميعَها، وترجَموا العديدَ مِنْ كُتُبِ الكيمياءِ والفلَكِ والطبِّ والفلسفةِ، وبرزَ مِنْ أشهرِ المترجِمينَ ابنُ المُقفّعِ الذي ترجمَ كتابَ (كليلَة ودَمنة).
السببُ: اهتِمامِ الخُلفاءِ الأُمويِّينَ بتعريبِ مؤسَّساتِ الدولةِ ، واختلاطِ المسلمينَ بشعوبِ الدولِ التي سيطَروا علَيْها، والاطِّلاعِ على ثقافاتِهِم |
النتيجةُ: نشطَتْ حركةُ الترجمةِ في الدولةِ الأُمويّةِ. |
كما أنشأَ الخليفةُ الوليدُ بنُ عبدِ الملِكِ المستشفياتِ (البيمارستاناتِ)، التي تختصُّ بعلاجِ الأمراضِ العصبيّةِ والعقليّةِ، واشتُهِرَ مِنَ الأطباءِ: الحكَمُ الدمشقيُّ وابنُ أثالٍ طبيبُ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ.
وعرفَ العربُ في عهْدِ الأُمويِّينَ علومًا عديدةً كعلمِ التاريخِ والفلسفةِ والكيمياءِ التي عُرفَتْ بعلمِ الصنعةِ - واشتُهِرَ الأميرُ خالدُ بنُ يزيدَ بنُ مُعاويةَ بشغفِهِ بالكيمياءِ - وعلمِ الفلَكِ الذي عُرِفَ بعلمِ الهيئةِ، وهوَ العِلمُ الذي يهتمُّ بدراسةِ الأجرامِ السماويّةِ (النجومِ والكواكبِ)، وصَنعوا الأدواتِ الفلكيّةَ لمعرفةِ حركةِ الكواكبِ كالإسطِرْلابِ والبوصلَةِ لمعرفةِ الاتِّجاهاتِ.
رابعًا: الاقتِصادُ
حرِصَ الخليفةُ عبدُ الملِكِ بنِ مُروانَ، على توحيدِ النقدِ وسَكِّ الدينارِ العربيِّ عملةً رسميّةً للدولةِ الأُمويّةِ، وبدأَ بسَكِّ العملةِ في الدولةِ في عامِ (76هـ/695م) وإنشاءِ دورٍ خاصّةٍ لضرْبِ الدنانيرِ الذهبيّةِ والدراهِمِ الفضيّةِ.
وازدهرَتِ الزراعةُ في الدولةِ الأُمويّةِ؛ إذْ استخدِمَتْ أساليبُ مُتنوِّعةٌ في زراعةِ الأرضِ، وتنوّعتِ المُنتَجاتُ الزراعيّةُ بتنوُّعِ أقاليمِها جُغرافيًّا ومُناخيًّا؛ فزرَعوا الزيتونَ والنخيلَ والقطْنَ والحبوبَ واهتمّوا بالثروةِ الحَيَوانيّةِ. وأسهمَ هذا التطوُّر في ظهورِ العديدِ مِنَ الصناعاتِ كصناعةِ الأسلحةِ الحربيّةِ والصناعاتِ الغذائيّةِ؛ كطحْنِ الحبوبِ وعصْرِ الزيتونِ وصِناعةِ الورَقِ مِنْ نباتِ البرديِّ، بالإضافةِ إلى صناعةِ المنسوجاتِ القُطنيّةِ والكِتانيّةِ ودباغةِ الجلودِ. وازدهرَتِ التجارةُ أيضًا في الدولةِ الأُمويّةِ لعدةِ عوامِلَ، مِنْها اتِّساعُ الدولةِ، وإشرافُها على الطرُقِ التجاريّةِ البرِّيّةِ والبحريّةِ الدوليّةِ، وتطوُّرُ الزراعةِ والصناعةِ، بالإضافةِ إلى اهتمامِ الخلفاءِ الأُمويِّينَ بتأمينِ حُرِّيّةِ التبادلِ التجاريِّ في المناطقِ المختلفةِ. وقَدْ عرَفوا التجارةَ الداخليّةَ بينَ الولاياتِ والأقاليمِ، والتجارةَ الخارجيّةَ مَعَ الدولِ المُجاورةِ؛ فكانوا يُصدِّرونَ الحبوبَ والسكُّرَ والقُطْنَ والأرزَّ إلى الصينِ والهِندِ، ويستورِدونَ الحجارةَ الكريمةَ والعاجَ والتوابِلَ والبهاراتِ. وبلغَ الاقتصادُ الأُمويُّ ذروةَ ازدِهارِهِ في عهْدِ الخليفةِ عُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، الذي يُحكى عَنْ عهدِهِ أنَّ عُمّالَ الصدقاتِ كانوا يبحثونَ عَنْ فقراءَ لإعطائِهِم المالَ فلا يجِدونَ. وقَدْ وفّرتِ الدولةُ في عهدِهِ للأفرادِ خِدْماتٍ كثيرةً؛ فساعدَتْ على توفيرِ العلاجِ وإعالةِ المحتاجينَ، وساعدَتِ الشبابَ على الزواجِ، وأعانَتْ مَنْ يُريدُ تأديةَ الحَجِّ، وغيرَ ذلِكَ مِنَ الحاجاتِ.
خامسًا: العمارةُ
تأثّرتِ العمارةُ الأُمويّةُ بفنِّ العمارةِ لَدى شعوبِ البلدانِ المفتوحةِ، وحرِصَ الأُمويّونَ على إضافةِ الطابَعِ الإسلاميِّ لَها، وبَنوا المدُنَ والمساجِدَ والقصورَ، ووسّعوا المسجِدَ النبويَّ في المدينةِ المنوّرةِ، وبنوا مسجِدَ قبّةِ الصخرةِ والمُصلّى المروانيَّ في القدسِ الشريفِ في عهْدِ الخليفةِ عبدِ الملِكِ بنِ مُروانَ.
ويضمُّ المُصلّى المروانيُّ في المسجدِ الأقْصى ستّةَ عشَرَ رواقًا حجريًّا قائمًا على دعاماتٍ قويّةٍ، ويمتدُّ على مِساحةٍ تبلغُ أربعةَ دونماتٍ ونصفَ الدونمِ تقريبًا، ويُعدُّ أكبرَ مِساحةً مسقوفةً في المسجدِ الأقصى حاليًّا
بُنِيَ المسجِدُ الأُمويُّ في دِمشقَ بينَ عامَي (8-97هـ/706-716م) واستغرقَ بناؤُهُ عشرَ سنواتٍ، وجُلِبَ لهُ الصنّاعُ مِنَ الهِندِ وبلادِ فارِسٍ، وزُيِّنتْ جدرانُهُ بزخارفَ وكتاباتِ كوفيّةٍ جميلةٍ، وفُسيفساءَ ملوّنةٍ لمناظرَ طبيعيّةٍ دِمشقيّةٍ، وأبرزُ ما يُميِّزهُ وجودُ المِحْرابِ والمِأذنةِ، ويُعتقَدُ أنّهُ بُنِيَ على أنقاضِ معبَدٍ آراميٍّ قديمٍ. |
كما بَنوا المسجِدَ الأُمويَّ في دِمشقَ في عهْدِ الخليفةِ الوليدِ بنِ عبدِ الملِكِ. وكانَ أبرزُ ما يُميِّزُ فنَّ العمارةِ في الدولةِ الأُمويّةِ الزخرفةَ والتزيينَ الإسلاميَّ؛ إذْ استقدَموا العديدَ مِنَ الفنّانينَ مِنَ الدولِ المجاورةِ، وأدخلوا الخشبَ والرُّخامَ والفُسيفساءَ، وإلَيْهِم يعودُ الفضلُ في إدخالِ المِحرابِ والمِئْذنةِ والقِبابِ في بناءِ المساجِدِ.
ومِنَ الإنجازاتِ المِعماريّةِ للأُمويِّينَ، بِناءُ القلاعِ والقصورِ الصحراويّةِ التي بُنِيَ بعضُها على طريقِ الحجِّ والتجارةِ الواصِلِ بينَ بلادِ الشامِ والحجازِ. ومِنْ أبرزِها قصْرُ الحيرِ الغربيِّ والشرقيِّ في الباديةِ السوريّةِ، وقصْرُ هِشامِ بنِ عبدِ الملِكِ في أريحا في فِلَسطينَ.
واحتوَتِ الصحراءُ الأُردنيّةُ على العديدِ مِنَ القصورِ الصحراويّةِ الأُمويّةِ، مِنْ أشهرِها قصْرُ عَمْرة في مَنطِقةِ الأزرقِ في مُحافظةِ الزرقاءِ، والقصْرُ الأُمويُّ في الطرفِ الشماليِّ مِنْ جبلِ القلعةِ في عمّانَ، وقصْرُ المَشتى وقصْرُ الحلّاباتِ وقصْرُ الخرّانةِ.
وكانَتْ هذِهِ القصورُ تُستخدَمُ محطّاتٍ للاستراحةِ والتزوُّدِ بالماءِ والمُؤَنِ، ويلجأُ إلَيْها بعضُ خلفاءِ الأُمويِّينَ وأُمرائِهِم لمُمارسةِ الصيدِ وركوبِ الخيلِ بَعيدًا عَنْ ضوضاءِ المُدنِ.