بداية النّثر الأدبيّ الحديث وسياقه :
نقطة البداية: يعود تاريخ ظهور فنون الأدب الحديث وتطوّرها، بما في ذلك النثر، إلى عصر النّهضة.
أسهمت ملامح النّهضة الثّقافيّة والمدنيّة، كالصّحافة والتّعليم والطّباعة والبعثات التّعليميّة وغيرها، في ظهور رموز الرّيادة في الكتابة النثريّة العربيّة الحديثة.
روّاد النّثر الحديث (جيل اليقظة)
دورهم الأساسيّ: هذه العوامل ساهمت في ظهور رموز الرّيادة في الكتابة النّثرية الحديثة.
تسميتهم: عُرف هؤلاء الرّواد بـ "جيل اليقظة".
أبرز أعلامهم:
رفاعة الطّهطاويّ.
بُطرس البستانيّ.
محمد عبدُه.
إسهامهم الرّئيسي: يُحفظ لهؤلاء الرّواد أنّهم:
مهّدوا الطّريق لتخليص النّثر من أسلوب السّجع وأطلقوا العبارات حرةً مُرسلة (أي بسيطة وواضحة ومباشرة).
مسارات تطوّر النّثر الحديث :
بعد جهود الرّواد، سار النّثر في مسارين رئيسيين:
المسار الأوّل: التّقليد (التّأثر بالتّراث)
الدّافع: التّأثر بالتّراث العربيّ ومحاكاته.
الهدف: الدّعوة إلى إحياء أشكال النّثر التّراثيّ المنقول.
أمثلة على التّراث المحاكى:
(كليلة ودمنة -------------- ألف ليلة وليلة --------------- المقامات)
نموذج تطبيقيّ: يُعد كتاب "حديث عيسى بن هشام" للمويلحي نموذجًا نثريًا على هذا المسار، حيث بُني على نمط المقامات.
المسار الثّاني: التّأثر بالغرب
الدّافع: الاطلاع على الأدب الغربيّ والتّأثر به.
التّطبيق: سار الكُتّاب على منوال (طريقة) القصص الغربيّ.
التّطور اللاحق: تلت هذه التّجربة الأوليّة ترجمات ناضجة ودقيقة للأدب الغربيّ، وكان من روّاد هذه التّرجمات طه حسين وغيره.
تطوّر فنّ المقالة
دور الصّحافة في تطوّر الكتابة النّثريّة
فترة الثّورة الكتابيّة: يُعدّ النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر ثورة حقيقيّة في عالم الكتابة، وكان الفضل في ذلك للصّحافة.
نشاط الصّحافة: نشطت حركة إصدار الصّحف والمجلّات في تلك الفترة، ومن أمثلتها جريدة الأهرام ومجلة الهلال.
تأثير الصّحافة على أسلوب الكتابة:
تخليص الكتابة من التّكلف: خلّصت الكتابة الأدبيّة من التّصنّع، والزّخرف اللفظيّ، وسيطرة المحسنات البديعيّة.
نقلها إلى الوضوح: نقلتها إلى أسلوب يتسم بالوضوح ودقّة التّعبير.
تطويع اللغة: جعلت اللغة أكثر مرونة لتستوعب التعبير السلس عن الأفكار (خطرات التفكير) والمشاعر (الوجدان)، بعيداً عن قيود السجع والأسلوب الرتيب.
توسيع قاعدة القرّاء: بفضل الصّحافة، استطاعت الكتابات أن تصل إلى جميع طبقات القرّاء.
أسباب ازدهار الصّحافة وظهور فن المقالة :
-نمو التّيارات والحركات السّياسيّة والإصلاحيّة.
-زيادة الوعي القوميّ من جهة، والوعي الدينيّ من جهة أخرى.
وظيفة الصّحف: أصبحت الصّحف منابر لهذه الحركات الّتي تمثّل الدّعوات والمواقف المتنوّعة.
الهدف: كان الهدف هو التّأثير في الرأي العام والتّعبير عن قضاياه.
الحاجة إلى فن كتابي جديد:
هذا الوضع استدعى وجود فن كتابي قادر بخصائصه على استيعاب الطروحات اليوميّة والمستجدات الفكريّة.
كانت المقالة هي القالب الأنسب للتعبير عن آراء هذه المذاهب واستيعاب مناظراتهم السياسية والفكرية بطريقة مرنة وسلسة وسريعة ودقيقة.
تعريف المقالة : هي قطعة نثريّة قصيرة أو متوسطة الطّول.
أهم سماتها:
موحّدة الفكرة: تركّز على فكرة رئيسية واحدة.
موضوعها: تعالج بعض القضايا الخاصّة أو العامّة معالجة سريعة.
أسلوبها: يمتاز بالسّهولة.
طابعها: يغلب عليها رأي الكاتب الشّخصيّ.
أنواع المقالة :
انقسمت المقالة في بداية نشأتها ثلاثة أقسام :
1. المقالة الصّحفيّة .
2. المقالة الأدبيّة.
3. المقالة الموضوعيَة .
1.المقالة الصّحفيّة :
موضوعها: تتناول المشكلات القائمة والقضايا العارضة (الطّارئة).
أنواعها : المقالة الافتتاحيّة / المقالة السّياسيّة / المقالة الاجتماعيّة / المقالة الاقتصاديّة .
2. المقالة الأدبيّة :
موضوعها: تختص بقضايا الأدب والفنّ والتّاريخ والاجتماع.
سماتها :
مفعمة بروح العاطفة والخيال
توظّف الجمل التّصويريّة
لا يُشترط فيها الالتزام بهيكلة محددة (مقدمة، عرض، خاتمة)، وإن كان يُفضل ذلك.
3. المقالة الموضوعيّة :
موضوعها: تعالج القضايا والموضوعات المتنوّعة.
سماتها :
-تلتزم بهيكل بنائيّ صارم (مقدّمة، عرض، خاتمة)
-الحياديّة: تعرض القضايا بوجهات نظرها المختلفة بحياديّة، دون تحيّز أو تبنٍ لوجهة نظر على حساب أخرى.
- التّسلسل المنطقيّ: تتدرج أفكارها وتتسلسل لتصل إلى النّتائج بشكل منطقيّ.
-لغة واضحة ودقيقة: تستخدم لغة دقيقة وتعتمد على الكثير من المعلومات التي تُغني الموضوع، بعيدًا عن الخيال والجمل التّصويريّة.
أشهر كتّاب المقال :
العقّاد / طه حسين / مي زيادة
خصائص فن المقالة:
أقرأ مقالة ((نحبك أيّها الأردنّ)) للأديبة هند أبو الشّعر لتتعرّف لخصائِص فن المقالة :
((أنتَ الآنَ أيُّها الوطنُ ترفع رؤوسَنا وتجعل هاماتِنا تطاول السّماوات، وها نحن نقف معك على عتبة السّبعين في عهدِ استقلالِك، ونكادُ نصلُها. أنتَ الآن حالةٌ استثنائيّة يتدفقُ وهج الرّواد في آفاقنا، ونكادُ نستعيد أنفاسَ الفرسانِ الّتي تناغمت مع خيولِ النّهضةِ العربيّة الكبرى قبلَ قرن من عمر الزّمن، لتتلاقى مع نبضِ الأجداد الّذين حقّقُوا استقلالَنا، وأعطَوْنا وطنًا أبِيًّا وحرًّا يمارس سيادتَه بأمن وأمان.
هكذا أنتَ الآن أيّها الوطن ... هكذا نراك في عيوننا، نراك شهمًا تفتح البابَ لكلِّ من يَلُوذُ بك من أهلِنا الّذين تَقَاطَرُوا دائمًا على حِمَى الأردنّ، هكذا كنْتَ دائمًا: كريمًا تغيث أهلَنا العرب، وأراك في هذا العام تكبرُ وتكبر في العيونِ والقلوب، وقائدُ الوطن يقول لكلّ أردنيّ: (ارفعْ رأسَك )، ويَحقّ له أنْ يطلبَ منّا كلّنا أنْ نرفعَ رؤوسَنا؛ فلدينا جيشٌ بيدِه رايةُ الثّورة العربيّة الكبرى، وأهلٌ يحملون قلوبًا عربيّةً طيّيةً تغيث الّذين يلوذون بنا، وشبابٌ حقّقوا معجزةَ التّعليم والخدمات الصّحيّة المتميّزة. تريد الحقَّ أيّها الوطن، أنتَ معجزةٌ تبعث فينا شعورَ التّحدّي والأمل، وتحفّزنا لأن نرفعَ رؤوسَنا مثلَ راياتٍ بيدِ فرسانٍ، مرفوعةٍ على الهَامَات.
أنتَ وطنٌ صغيرٌ بحجمك، ولكنّنا نحبّك أكثرَ كلّما فتحت أبوابك مُشْرَعةً ليلوذَ بك أهلُنا الّذين غلبتهم أوطانهم، وأنتَ فقيرٌ بمواردِك، لكنّك تتقاسمُ مع الأهلِ الّذين جاؤُونا قطرةَ الماءِ، ولقمةَ الخبز، كريمٌ وطيّبٌ أيّها الأردنّ؛ لهذا نحبّك ونخاف عليك، نحبّك في كلّ حالاتك؛ لأنّك تستحقّ الحبّ، ونَعْتَب على الّذين لا يَرَوْن غيرَ نصفِ الكأسِ الفارغ، وأقول لهم: اغفرْ لهم يا ربّ فإنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!
سامِحْنا لأنّنا نكتب في كلّ صباح أردنيٍّ يملؤُه الأمنُ والأمانُ كلامًا عاديًّا وننسى أنْ نصلّيَ لأجلك،
أنانيَّتُنا كبيرة، فنحن نفكِّر بأنفسنا وننساك، لكنّك الأبُّ الحاني والأمُ الحنون، تسامحُنا وتحضنُنا وتنسى أنانيَّتنا، فكيفَ نقول لك نحبّك أيُّها الوطنُ الآمنُ الطيّب بكلّ لغات العالم؟ من أينَ لنا الصوت الذي يطاول السماوات لتصلَ أصواتُنا إلى الكرة الأرضيّة وتنقل حبَّنا الكبير؟ أنتَ في عيد استقلالنا أجملُ وأطيبُ وأكثرُ أمْنًا وأمانًا. أنت الوطنُ الذي لا مثيلَ له، هل يمكنُني أخيرًا أنْ أستودعَك سرَّ هواجسي ومخاوفي أيّها الوطن؟ هل تصدِّق أنّني أخاف أن أسافرَ خارجَ حدودك
وأموتَ بعيدًا عن سمائِك السّاطعةِ بشمس حارقةٍ تلسع جلدي؟ وهل تصدّق أنّني أخاف أن تُغمِض يدُ الموتِ عيني وأنا بعيدةٌ عنك؟ أَلُوذُ بك وأتنفّسَ بحريّة وأقول لنفسي بطمأنينة: أنا أنامُ بأمنٍ في وطني، فماذا أريدُ أكثر؟
فَلْتَهْنَؤُوا يا أبناءَ وطني بحريّة في وطنكم، احتفلوا باستقلالِ الوطن، فكّروا فقط في النعمِ التي منحكم إياها الله بالنومِ ليلًا في وطنكم الآمنِ الذي يحرسُه الجيش العربيّ الأردنيّ، وفي التّمتعِ صباحًاً بفضاءٍ حرٍّ يحرسُه نسورُ الجَوّ الأردنيّ ... كلّ عام وأنت بكلّ الخير أيّها الوطن.)».
الخصائص الفنّيّة للمقالة:
1- التّعبير عن وجهة نظر الكاتب بحرّية.
2- الإيجاز والبعد عن التّفصيلات المملّة.
3- التّدرّج فب الانتقال من فكرة إلى أخرى.
4- البعد عن التّكلّف اللفظيّ والصنعة.
فن القصّة :
التّعريف: فنّ سرديّ يعالج واقع الإنسان وقضاياه النّفسة والاجتماعيّة، وتقوم في بنيتها على الوصف للحياة والأشخاص والأحداث، وتهتم بصراع الشّخصيات النفسيّ والاجتماعيّ.
نشأة القصّة عربيًّا :
فترة الظّهور : ظهرت القصّة بمفهومها الحديث في أواخر القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين.
مكان الظّهور : ظهرت في كل من مصر ولبنان
المرحلة الأولى : البدايات
-كان مستواها الفنّيّ يتأرجح بين النّضج والضّعف.
-أبرز تجارب هذه الحقبة: تجربة سليم بطرس
-كان يُطلق عليها "قصّة" أو "رواية" بشكل غير دقيق (تجاوزًا)
- ظهرت أيضًا في هذه الحقبة القصّة الاجتماعيّة الممزوجة بالملامح التّاريخيّة؛ وذلك نتيجة طبيعيّة للاتجاهات الاجتماعيّة الّتي واكبت سير النّهضة وحركة التّجديد.
- سليم بطرس البستانيّ
- صاحب "مجلة الجنان"، ونشر فيها قصصه.
- أطلق على أعماله اسم "روايات" دون أن يكون مصطلح الرّواية أو القصّة واضحًا فنّيًّا لديه.
- من أهم أعماله: "الهيام في جنان الشّام".
- نشر قصصًا مترجمة أيضًا .
المرحلة الثّانية (مرحلة الانتشار الفني للقصّة):
الزّمن : عشرينيّات القرن الماضي (1920 وما بعدها).
التّطوّر : نضجت فنون القصّ والسّرد، وبدأ كل لون (القصّة، الرّواية) يستقل بذاته وخصائصه
ظهور القصّة القصيرة : برزت القصّة بمفهوم مستقل .
رائِدها : يعدّ محمد تيمور رائِد القصّة القصيرة الحديثة .
مفهومها : فنّ سرديّ يتناول لمحة خاطفة عن موقِف فرديّ أو مجتمعيّ ، وتدور حول حدث رئيس واحد ضمن بيئة فنّيّة مكتملة العناصِر.
أنواع القِصّة :
فترة التّبلور : تبلورت ملامحها منذ عام 1920.
روّادها : يحيى حقّي ويوسف إدريس.
خصائِصها : تحددت معايير كتابتها وبناؤها الفنّيّ وفقًا للمعايير التّقليديّة العامّة .
قصّة تيار الوعي: هي قصّة غير تقليديّة في بنائها الفنّيّ والتّعبيريّ.
عناصر العمل القصصيّ :
1- الحدث:
- يتكون من مجموعة أقسام تتطوّر وتتصاعد وتتشابك.
- يخلق حالة من الصّراع تصل إلى ذروتها فيما يعرف بـ الحبكة أو العقدة.
- ينتهي بالوصول إلى الحلّ أو النّهاية.
2- الشّخصيّات:
- تُعد أهم عناصر القصّة.
- فيها تُصَوَّر حياة أفراد عاديين يشاركهم القارئ اهتماماتهم وهمومهم وطموحاتهم وأعماقهم النّفسيّة.
- عادةً ما تترجم إلى صورة بطل تدفعه الأحداث إلى صراع مع قوى أخرى مضادة.
- أنواع الشّخصيات:
- النّامية (الرّئيسة): تتطور وتتغير مع الأحداث.
- الثّابتة (الثّانويّة): لا تتغير صفاتها الأساسية.
- أبعاد رسم الشّخصيّة: يتعمّد الكاتب رسم الشّخصية في أربعة أبعاد:
- البعد الجسديّ: تصوير ملامحها البدنيّة.
- البعد النّفسيّ: تصوير خصائصها الانفعاليّة والعاطفيّة.
- البعد الاجتماعيّ: تصوير مستواها الطبقي ومنزلتها في المجتمع.
- البعد الفكريّ والثّقافيّ (الأيديولوجيّ): تصوير مبادئها ومعتقداتها وأفكارها.
3- الزّمان والمكان:
-
- هما البيئة الّتي تجري فيها الأحداث ومسرحها وزمانها.
4- اللغة والأسلوب:
اللغةُ هي الحاملُ للفكرِ ومضامين النّصّ ومرجعياتِهِ، وهي تتجاوزُ المفردةَ واللفظة المعجميّة إلى بناء النّص، وهي وسيلةُ التّعبيرِ ضمنَ تقنياتٍ مخصوصةٍ كالوصفِ والحوارِ والتَّداعِي والاسترجاعِ والحلمِ وغيرها. ويتضمنُ الحديثُ عن الأسلوب توظيفَ الحوار، والحوارُ يخفّف من رَتَابة السّرد ويجعلُ الشّخصيّات أكثرَ حضورًا وتجسيدًا للموقف.
والحوار نوعان : داخليّ ويعرّف ( المونولوج )
خارجيّ يسمّى ( ديالوج )
- المغزى:
- كل قصّة لها مغزاها الخاص الّذي يجسد فكرة الصّراع فيها.
- الكاتب لا يقدم صيغًا جاهزة أو دروسًَا أخلاقيّة مباشرة، بل يكون العمل الأدبيّ بمثابة مرآة متعددة الزّوايا تعكس الواقع وتترك للقارئ فرصة التّأمل.
- تحليل قصة (الجزّار) / جمال ناجي
- نبذة عن الكاتب
- جمال ناجي (1954 - 2018): هو أديب أردنيّ.
- من أشهر إصداراته: "عندما تشيخ الذّئاب"، "مخلفات الزّوابع الأخيرة".
- قصّة الجزّار
- (بطيءٌ ... مشكلة ذلك الجزّار .. أنّه بطيء)
ثمّ تأفّفت .. أدرت رأسي نحو (شبه عجوز) ورائيّ، رأيتها، انطبعت تقاطيعها المتبرِّمة في مخيّلتي: وجهٌ أحمر غاضبٌ تعلوه نُدبٌ بُنيّة، وعرقٌ سخيٌّ يسحّ من جبهتها المُتجعّدة، وفمها المزموم بشفتين متقوّستين ينطق:
- ما أكثر أشغالي اليوم!
عادت تقول مثل من تحادت نفسها
التقطت رسالتها على الفور، تقنّعت الشّهامة، تنازلت عن دوري:
- تفضّلي .. خُذي تفضّلي
تحرّكت المرأةُ، شكرتْني، احتلّت مكاني، فصرْتُ خطوةً للخلف في ((الطَّابور))، ربّما ابتَهَجَتْ في دَخِيلتها حين تنازلْتُ لها، ربّما سَخِرتْ منّي، لكنّها لم تستطعْ إخفاءَ ملامحِ السّرورِ التي غَمَرَتْ وجهَهاالأحمر.
مشكلتي الآنَ لا تَكْمنُ في الوقت، أو في طَابُور الرّجالِ والنّساء أمامي، إنّما في الطّريقةِ الّتي سألجأُ إليها حينَ أُخاطبُ الجزَّارِ، مِنْ أينَ سأجدُ جرأة النّطقِ بما أريد؟ كيفَ أبدأُ معه حين يأتي دوري؟ أمّا الوقت! ما قيمةُ الوقتِ لرجلٍ مثلي مُتَهَدِّلِ الثّيابِ مَنْكوشِ الشَّعرِ، مُتَنَازِلٍ عن دَورِه للآخرين؟
منذُ وقفتُ في الطَّابور وأنا أراقبُ الرّجالَ والنّساءَ أمامي، إنّ تَشَبُّثهم بأدوارهم يبعثُ على التَّسليةِ، ما إِنْ يقتربُ من الجزَّار رجلٌ من خارجِ الطّابور حتّى يبدأَ لغطُهم واحتجاجُهم، إنّهم مُتَمَسِّكون بالحقِّ، لا شيءَ غيرُ الحق.
لا يهْدَؤُون إلا حينَما يوضّحُ لهم ذاك الذي اقتربَ أنّه لا يريدُ مزاحمتَهم، إنّما الاستفسار عمّا إذا كانَ لدى الجَزَّار قطعةٌ من الكَبِدِ أو أيُّ مقطعٍ آخرَ من أبْدَانِ الحيواناتِ المَذْبوحة.
تلفّتُّ خلفي فرأيتُ رجلًا يقفُ بصرامةٍ وعُبوس، أرْخَيْتُ قَسَمات وجهي؛ افتعلتُ ابتسامةً، ثمّ أخليتُ موقعي له، فرفعَ حاجبيه اندهاشًا أو استخفافًا، ثمّ استولى على دوري دونَ ترُّدد ودونَ كلمة شكر!
تنبّهَ الجزَّار إلى تنازُلي، قَطّبَ حاجبيه:
- يا أخ، إذا لم تحافِظُ على دَورك سَيَنْفذ اللحمُ قبلَ أنْ تصلَني.
إنّه أكثرُ قسوةً ممّا ظننتُ؛ فصوتُه مَجْرورٌ مسحوبٌ من حنجرةٍ مُسَنَّنةٍ جارِحة:
- لستُ مُتَعَجِّلًا.
فزَجَرني بعينيه الجارحتين، ثمّ سلّم المرأةَ ذاتَ الوجهِ الأحمرِ كيسًا مليئًا باللحم، فَتَنفَّستْ واستدارت، لكنّها لم تنسَ أنْ تَشْكرَني أثناءَ توجّهِها نحوَ سيارتِها ...
الأمرُ هذا مُرْبِكٌ مُحرِج، سوف أنتظرُ حتّى ينتهيَ الطّابور، ثمّ أواجهُ الجزّارَ وحيدًا، هكذا أفضلُ، صحيحٌ أنّني أَمْتَعِضُ كلّما اصْطفَّ خلفي رجلٌ جديدٌ أو امرأة، لكنّني أجدُ نفسي مضطرًا لإخلاءِ موضعي والتّبرعِ به لذلك القادم الجديد .. أخيرًا وجدتُ نفسي في مواجهةِ الجزّار.
وقفتُ حائرًا أمامَه، تلفتُّ حولي، لمْ أجدْ أحدًا، نظرتُ في وجهِه فتبيَّن لي أنّ في عينيه حَوَلًا بسيطًا
يصعبُ اكتشافُه قبلَ الاقترابِ منه، تَلَكَّأتُ ثم جازفتُ:
- إذا سمحت ...
لم أكملْ، شددْتُ قَبضتي، آلمتْني أظافري الّتي انْغَرَزَتْ في راحة يدي، وأحسستُ بنفاد الزّخمِ الذي
مَلَأني، ربّما أحسَّ هو بما يدورُ في خَلَدي، ربّما قالَ في نفسِه إنَّ بِي مَسًّا، وربّما ..
- الدّينُ ممنوعٌ يا حبيبي!
عاجلني بفظاظة،فنطقت ببراءة:
- لكنّني لا أريد لحمًا
فأمسك بمقبض ساطوره، ضربه بالقطعة الخشبيّة أمامه كمن نفذ صبره
- ماذا تريد إذن؟ (خلِّصني)
- أريد – إن لم يكن لديك مانع- بعض العظام للأطفال.
- التّحليل الفنيّ والأدبيّ للقصّة :
- قيمة القصّة (الواقعيّة):
- تكمن قيمتها في واقعيتها.
- الواقعيّة هنا ليست بمعنى سرد قصة حدثت بالفعل، بل لأنّها تعبر بصدق عن واقع الحياة ومعاناة الإنسان.
- التّقنية السّرديّة:
- وُفّق الكاتب في تقنية السّرد حين اتخذ ضمير الأنا (المتكلّم)، مما يجعل القارئ أقرب إلى مشاعر البطل وصراعه الداخليّ
- رسم الشّخصيات:
- أظهر القاص قدرة فائقة في اختيار الشّخصيات ورسمها وكشف دواخلها النّفسيّة عبر الوصف الخارجيّ والحوار.
- شخصية الجزّار: قُدمت في ثوب شخصية قاسية القلب، كأنه بلا مشاعر.
- رسم الأبعاد النّفسيّة: برع الكاتب في رسم الأبعاد النفسية الداخلية ليس فقط للبطل، بل لجميع الشخصيات رغم المساحة اللفظية الضيقة.
- تطوّر شخصيّة البطل (الشّخصيّة النّاميّة):
- من الإبداع في القصة أن شخصية البطل (نامية (متطورة.
- تبدأ الشخصية بعدم الجرأة على قول أو فعل أي شيء سوى التخاذل والتراجع.
- في النهاية، تمتلك الشخصية الجرأة لتقول ما تريد وتوصل رسالتها للجزار، بكلمات مؤلمة وقليلة القيمة في ظاهرها ("ما أبخسها وآلمها من كلمات!").
- إبداع الخاتمة (النّهاية المفارقة):
- أهم موضع للإبداع في القصة هو خاتمتها التي جاءت على نحو مفارق، مدهش، وصادم للمتلقي.
- سبب الصّدمة: كان المتلقي يتوقع أن يطلب البطل لحماً على سبيل الصدقة بسبب فقره، أو أن يطلب بعض اللحم بالدين لقلة نقوده.
- المفارقة: أن يطلب "عظاماً للأطفال" كانت نهاية فارقة، لأنه بهذا الطلب يظهر أنه لا يملك شيئاً على الإطلاق.
- عمق الدّلالة: لم يقل "لأطفالي" بل قال "للأطفال"، لينقل بذلك معاناته من حيز شخصي ضيق إلى حيز أوسع وأكثر شمولاً في المجتمع.
- الرّواية الأردنيّة :
1- مقدمة: مكانة الرواية الأردنيّة
- التّطور العام: عرفت الرّواية العربية تطورًا كبيرًا وأصبحت من الفنون السّردية واسعة الانتشار ولها جمهورها الخاص.
- المكانة الأردنيّة: عند الوقوف على الرّواية الأردنيّة ، نجد أنها حققت:
- انتشارًا وصعودًا لافتًا في ساحة الأدب.
- فوزًا بالجوائز العربيّة والعالميّة.
2- المرحلة الأولى: البدايات المبكّرة
- الرّيادة العربيّة: تُصنف البدايات الأولى للرواية الأردنية ضمن أولى البدايات الروائية العربية بشكل عام.
- أول رواية أردنيّة: ظهرت عام 1912 برواية "الفتاة الأرمنيّة في قصر يلدز" التي كتبها عقيل أبو الشّعر.
- أعمال تالية:
- جاء بعد ذلك روكس العزيزي بروايته "أبناء الغساسنة وإبراهيم باشا" الصادرة عام 1937.
- في منتصف القرن الماضي، ظهرت روايات كتبها عيسى النّاعوري وحسني فريز.
3- المرحلة الثّانية: مرحلة النّضج (السّتينات والسّبعينات)
- التّطور الفنّيّ: في هذه المرحلة، بدأت الرواية الأردنية تحلّق في سماء الأدب.
- مضامين الرّوايات: أصبح الرّوائيون الأردنيون يقدمون أفكارًا وتأمّلات ورؤى عميقة، ويرصدون موضوعات مثل:-
- الواقع. - الإنسان. - الغربة. - المدينة في صراعات عميقة.
- الموازنة بين الحداثة والأصالة: استطاع الرّوائيون تقديم روايات صيغت بقوالب مبدعة دون الخروج عن الأصالة الأردنيّة والهوية العربيّة الحضاريّة.
- أمثلة على روايات هذه المرحلة:
- "أنت منذ اليوم" لـِ تيسير سبول.
- "الضَحِك" لـِ غالب هلسا.
- "العودة إلى الشمال" لـِ فؤاد القسوس.
4- المرحلة الثالثة: مرحلة الازدهار والعالمية (العقود الثلاثة الأخيرة)
- ذروة التطور: بلغت الرّواية الأردنيّة أوج ازدهارها وتكاملها الفنّيّ في هذه الفترة.
- الانتشار الواسع:
- انطلقت إلى الانتشار العربيّ والعالميّ.
- أصبح لها جمهورها الواسع في الأردنّ، والوطن العربيّ، والعالم أجمع.
- التّرجمة: تُرجمت إلى لغات كثيرة من لغات العالم الحيّة.
- الجوائز: فازت روايات أردنيّة بجوائز عربيّة وعالميّة مرموقة.
- أمثلة على الروايات الفائزة:
- فوز الأديبة الأردنية ليلى الأطرش بـ جائزة كتارا عن روايتها "لا تشبه ذاتها".
- فوز رواية "دفاتر الورّاق" للكاتب الأردني جلال برجس بـ الجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الرابعة عشرة لعام 2021.