يثربُ هُوَ الاسمُ القديمُ الّذي كانَ يُطلَقُ في الجاهليّةِ على المدينةِ المنوّرةِ، وقَدْ سمّها سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وطَيبةَ، وثبتَ اسمُها في آياتِ القرآنِ الكريمِ، قالَ تَعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120 [وفيها ثاني أقدسِ المساجدِ على وجهِ الأرضِ بعدَ بيتِ اللهِ الحرامِ في مكةَ ؛ وهوَ المسجدُ النّبويُّ. قبلَ الهجرةِ النبويةِ الشريفةِ كانَتْ تسكنُ المدينةَ المنَوَّرةَ مجموعةٌ مِنَ القبائلِ العربيةِ (الأوس، الخزرج) إضافةً إلى اليهودِ (بنو قينقاع، بنو الضير، بنو قريظة)، وعندَ هجرةِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ المنَوَّرةِ، كتبَ وثيقةَ المدينةِ التي تنظّمُ العلاقةَ بَيْنَ أفرادِ المُجتمعِ. |
أستنيرُ
لمّا هاجرَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ المنورةِ، كانَ يسكنُها:
أ. المسلمونَ مِنْ قبيلتَيِ (الأوسِ والخزرجِ) الذينَ سُمّوا في ما بعدُ الأنصارَ، وكذلكَ المسلمونَ الذينَ هاجروا إليها قبلَ وصولِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذينَ سُمّوا في ما بعدُ المهاجرينَ.
ب. اليهودُ مِنْ قبائلِ بَني قَيْنُقاعَ وبَني النَّضيرِ وبَني قُرَيظةَ.
ج. المشركونَ مِنْ أهلِ المدينةِ. وقدْ كتبَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وثيقةً عامّةً تنظّمُ العلاقةَ بَيّنَ هذهِ المكوِّناتِ عى أساسِ السِّلمِ وحقِّ الجوارِ والمواطنةِ، وبيَّنَتِ الوثيقةُ حقوقَ المواطننَ وواجباتِهِمْ جميعًا بمَنْ فيهِمُ اليهودُ.
أولًا: الحقوقُ التي أقرّتْها الوثيقةُ ليهودِ المدينةِ المنورةِ
أ. حقُّ المواطنةِ والتّعايشِ السِّلمِيّ: فلليهودِ مثلُ ما للمسلمينَ مِنَ الحقوقِ، وعليهِمْ تجاهَ المجتمعِ واجباتٌ عامّةٌ.
ب. حقُّ الاعتقادِ والتّديُّنِ: بممارستِهِمْ عباداتِهِمْ وشعائرَهُمْ وطقوسَهُمُ الدّينيّةَ.
ج. حقُّ الأمنِ والتنقُّلِ: وذلكَ بالعيشِ بلا خوفٍ على أنفسِهِمْ أَوْ أعراضِهِمْ أَوْ أموالِهِمْ، في الإقامةِ وفي السَّفرِ.
د. حقُّ المساواةِ: فأفرادُ المجتمعِ جميعُهُمْ أمامَ القانونِ سواءٌ، مِنْ حيثُ المعاملةُ وعصمةُ الدِّماءِ.
أربطُ بَيْنَ نصوصِ الوثيقةِ والحقوقِ التي أعطَتْها الوثيقةُ ليهودِ المدينةِ المنورةِ:
نصُّ الوثيقةِ |
الحقوق |
1. "لليهودِ دينُهُمْ وللمسلمينَ دينُهُمْ". |
حقُّ الاعتقادِ والتّديُّنِ |
2. "وإنَّهُ مَنْ تبعِنا مِنْ يهودَ فإنَّ لَهُ النصّرَ والأسُوةَ غيرَ مظلومينَ ولا متناصَرٍ عليهِم ". |
حقُّ المساواةِ |
3."وأنَّهُ مَنْ خرجَ آمنٌ ومَنْ قعدَ آمِنٌ بالمدينةِ، إلّا مَنْ ظَلمَ وأثِمَ" |
حقُّ الأمنِ والتنقُّلِ |
ثانيًا: الواجباتُ التي تضمنَتْها الوثيقةُ على اليهودِ في المدينةِ المنورةِ
أ. التّكافلُ الاجتماعيُّ: فالجميعُ يتشاركُ في فداءِ الأسرى ودفعِ الدِّيةِ في القتلِ الخطأِ.
ب. الدِّفاعُ عَنِ المدينةِ: فأبناءُ المجتمعِ الواحدِ يتعاونونَ جميعًا في الدّفاعِ عَنْ وطنِهِمْ إذا تعرّضَ لأيِّ خطرٍ.
ج. احترامُ سيادةِ القانونِ: فالمرجعُ في الحُكمِ بَيّنَ اليهودِ والمسلمينَ في مجتمعِ المدينةِ سيّدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
أربطُ بَين نصوصِ الوثيقةِ والواجباتِ التي تضمنَتْها الوثيقةُ على اليهودِ في المدينةِ المنورةِ:
نصُّ الوثيقةِ |
الواجبات |
.1"وأنَّ بينَهُمُ النّصرُ على مَنْ حاربَ أهلَ الوثيقةِ" |
الدِّفاعُ عَنِ المدينةِ |
2. "وأنَّهُ ما كانَ بَيْنَ أهلِ هذهِ الوثيقةِ مِنْ حدثٍ أَوِ اشتجارٍ يُخافُ فسادُهُ، فإنَّ مردَّهُ إلى اللهِ وإلى محمّدٍ رسولِ اللهِ" |
احترامُ سيادةِ القانونِ |
3. المهاجرونَ مِنْ قريشٍ على رَبعتِهِمْ، يتعاقلون بينَهُمْ، وبنو عوفٍ على ربعتِهِمْ يتعاقلونَ معاقلَهُمُ الأولى". |
التّكافلُ الاجتماعيُّ |
ثالثًا: حُسنُ معاملةِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لليهودِ
كانَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يحرصُ عى دعوةِ اليهودِ للإسامِ، ولا يفوّتُ فرصةً يمكنُ أَنْ يبلّغَهُمْ فيها دينَ اللهِ تعالى إلّا وفعلَ، ومِنْ ذلكَ:
- محاورتُهُمْ: كانَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يتحاورُ مَعَ اليهودِ، ويجيبُ عَنْ أسئلتِهِمْ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ.
- زيارةُ مرضاهُمْ: كانَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يزورُ المرضى مِنَ المسلمينَ وغيرِهِمْ، وحينَ مرضَ غلامٌ يهوديٌّ كانَ يخدمُ سيدَنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، زارَهُ صلى الله عليه وسلم، وكانَ ذلكَ سببًا في إسلامِهِ.
- الأكلُ مِنْ طعامِهِمْ وتلبيةُ دعواتِهِمْ: فقدْ دعتْهُ امرأةٌ يهوديةٌ إلى طعامٍ، فأجابَها وقَبِلَ دعوتَها.
رابعًا: غَدرُ اليهودِ
على الرُّغمِ مِنَ المعاملةِ الحسنةِ التي لقيَها اليهودُ مِنْ سيّدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومنحِهِمْ كاملَ حقوقِهِمْ، إلاّ أنَّهُمْ نقضوا عهودَهُمْ ومواثيقَهُمْ ، والجدولُ الآتي يُبنُّ مظاهرَ غدرِهِمِ ومصيرَهُمْ:
القبيلة |
العام |
مظاهر نقص العهد |
عقوبتهم |
بنو قينقاعَ |
2 هـ |
- المجاهرةُ بالعداوةِ للمسلمينَ بعدَ انتصارِهِمْ على المشركين في بدرٍ، والتّحريضُ على قتالِ المسلمينَ. - إثارةُ الفتنةِ بَيْنَ أبناءِ المجتمعِ المسلمِ. - التعّرضُّ لامرأة مسلمةٍ في السّوقِ، وقتلُ رجلٍ مسلمٍ انتصرَ للمرأةِ، ورفضُهُمُ الاحتكامَ لسيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. |
حاصرَهُمْ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خمسَ عشرةَ ليلةً، حتى استسلموا ونزلوا على حُكمِهِ صلى الله عليه وسلم فأحسنَ إليهِمْ واكتفى بإخراجِهِمْ مِنَ المدينةِ. |
بنو النضيرِ |
4 هـ |
- نقضُ بنودِ وثيقةِ المدينةِ برفضِ المشاركةِ في دفعِ دِيَةِ قتيلَينِ قتلَهُا أحدُ المسلمينَ خطأً. - محاولةُ اغتيالِ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقدْ أرادوا إلقاءَ صخرةٍ عى رأسِهِ مِنْ سطحِ أحدِ البيوتِ، فأخبرَهُ الوحيُ بخيانتِهِمْ، فقامَ مسرعًا. |
حاصرَهُمْ سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سِتَّ ليالٍ، فألقى اللهُ الرُّعبَ في قلوبِهِمْ ونزلوا على حُكمِهِ صلى الله عليه وسلم فقضى بإجلائهِمْ عَنِ المدينةِ مَعَ ما يمكنُهُمْ حملُهُ مِنْ أموالِهِمْ، فجَلَوا إلى خيبرَ. |
بنو قريظةَ |
5 هـ |
- غدرُهُمْ بالمسلمينَ ونقضُهُمُ العهدَ بعدمِ الدِّفاعِ عَنِ المدينةِ بعدَ غزوِها، ومحاولةُ تمكينِ المشركنَ مِنْ دخولِ المدينةِ مِنْ جهةِ حصونِهِم يومَ الخندقِ. |
حاصرَهُمْ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرينَ ليلةً، فألقى اللهُ الرُّعبَ في قلوبِهِمْ، فلجؤوا إلى المفاوضاتِ، ورضوا بالنزولِ على حُكمِ سعدٍ بنِ معاذٍ فقضى بقتلِ مقاتليهِمْ، وهذا جزاءُ مَنْ يرتكبُ الخيانةَ العُظمى ويتآمرُ مَعَ الأعداءِ ضدَّ وطنِهِ، ولأنَّ خيانتَهُمْ كانَتْ عظيمةً تهدّدُ أمنَ المجتمعِ تهديدًا واضحًا. |
يهودُ خيبرَ |
7 هـ |
-كانَتْ خيبرُ مركزًا للتّآمرِ على الإسلامِ والمسلمينَ، فقدْ حرّضوا المشركنَ وغيرَهَمْ مِنَ القبائلِ على حربِ المسلمينَ يومَ الأحزابِ، وشجّعَ زعيمُهُمْ حُيَيُّ بنُ أخطبَ يهودَ بني قريظةَ على نقضِ العهدِ مَعَ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فارتكبوا جريمةَ الخيانةِ العُظمى ضدَّ الوطنِ. |
حاصرَهُمْ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشَر ليالٍ، ممّا اضطرَّهُمْ إلى المفاوضاتِ، ورغمَ تآمرِهِمْ على المسلمينَ، إلّا أنَّ سيدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما انتصَر عليهِمْ لَم يقتلْهُمْ، وإنَّما تسامحَ معهُمْ وسمحَ لَهُمْ بالخروجِ مِنْ خيبرَ، ثمَّ سألوا سيدَنا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يسمحَ لَهُمْ بالبقاءِ في أراضي خيبرَ على نصفِ ثمارِها، فأعطاهُمْ ذلكَ على أَنْ يخرجَهُمْ مِنْها متى شاءَ. |
أستزيدُ
- كانَ معظمُ النشّاطِ التجّاريِّ في المدينةِ المنوّرة قبلَ هجرة سيدِنا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليها بيدِ اليهود،ِ ممّا جعلَهُمْ يسيطرونَ على سوقِ المدينةِ ويستغلّونَ حاجاتِ النّاسِ، فكانوا يحتكرونَ السِّلَعَ ويتحَكَّمونَ في أسعارِها، ويتعاملونَ بالرّبا، وينتشر بينَهُمُ الغِشُّ والخداعُ.
- لذلكَ أرادَ سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يحميَ سوقَ المدينةِ مِنِ استغلالِ اليهودِ، فأنشأَ سوقًا للمسلمينَ يمارسونَ فيهِ نشاطاتِهِمُ التّجاريّةَ والاقتصاديّةَ، وقدْ نظَّمَ أمورَ البيعِ والشّراءِ في السوقِ الجديدةِ؛ لتكونَ منضبطةً بأحكامِ الشريعةِ الإسلاميّةِ القائمةِ على الصّدقِ والأمانةِ، وتحريمِ الغشِّ والرِّبا والاحتكارِ، وغيرِها مِنَ المعاملاتِ التّجاريّةِ غير المشروعةِ.
أربطُ مع الفقه
- موافقةُ سيدِنا رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أَنْ يزرعَ اليهودُ الأرضَ مقابلَ نصفِ ثمارِها دليلٌ على مشروعيّةِ المزارعةِ.
- والمزارعةُ: هِيَ اتفاقٌ بَينْ طرفَينِ يسلّمُ صاحبُ الأرضِ بموجبِهِ أرضَهُ الصّالحةَ للزراعةِ لمَنْ يزرعُها، على أنْ يكونَ لَهُ نصيبٌ مِنْ ناتجِها كالثُّلثِ أَوِ الرُّبعِ.