امتاز التشريع الإسلامي بقدرته على تنظيم واقع الناس، ومعالجته قضاياهم، واستيعاب الحوادث المتجددة في حياتهم، وإعطاء الحلول لها، ومدّ التشريعات الحديثة بأفضل النظم والقوانين، وذلك مستمد من أصول التشريع الإسلامي، كالقرآن والسنة والإجماع والاجتهاد وغيرها، وممّا أعطى التشريع الإسلامي هذه القدرة؛ تميّزه بخصائص، منها:
الربانية
ومعنى ذلك أنها من الله تعالى، فهي ربانية المصدر، وربانية الغاية.
ربانية المصدر: أي أن شريعة الإسلام مصدرها الوحي، جاءت بإرادة الله تعالى، فهو الذي وضع أسسها ومبادئها، قال تعالى: "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا"، وقد أكسبت ربانية المصدر الشريعة الإسلامية:
• العصمة من التناقض والتطرف.
• البعد عن التحيز والهوى.
• أنصفت الإنسان، وحررته من عبوديته لبشر مثله أو مخلوق شبهه.
ربانية الغاية: أي أن هدف الشريعة الإسلامية هو الحصول على مرضاة الله تعالى، ففطرة الإنسان لا يلبيها إلا الإيمان بالله والتوجه إليه، قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"، وربانية الغاية هذه ولّدت في الإنسان احترامه للنظام وسهولة انقياده للأحكام؛ ما يشيع الطمأنينة في المجتمع، وينشر العدل والمساواة، خاصّة أن فيها جزاءً دنيويًّا وأخرويًّا، بخلاف القوانين الوضعية، التي قد يفلت الإنسان من رقابتها بسهولة، في حين أن الشريعة الإسلامية فيها رقابة ربانية، فالصائم يمكنه بسهولة أن يشرب الماء أو يتناول الطعام ويفطر، لكنّ ما يمنعه عن ذلك هو استشعاره رقابة الله تعالى له.
الثبات والمرونة
فالتشريع الإسلامي يجمع بينهما في تناسق مبدع؛ الثبات في ما يجب أن يبقى، والمرونة في ما يجب أن يتغير ويتطور، وهذه الخصيصة البارزة خاصّة برسالة الإسلام، نجد فيها الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب، والثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات، والثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية والعلمية.
ويمكن توضيح الثبات والمرونة في أحكام الشريعة بما يأتي:
1-ما يمثل الثبات والخلود، يتعلق بأصول الإيمان كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وأركان الإسلام كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وأحكام الزواج والطلاق، وأمهات الفضائل من صدقة وأمانة وعفة وصبر وغيرها.
2-ما يمثل المرونة والتطور، وهو ما يتغير حسب ما تقتضيه المصلحة زمانًا ومكانًا، ومثاله آلية تطبيق الشورى، فالشورى واجبة، لكنّ آلية تطبيقها، متروكة حسب الزمان والمكان.
ومن الاجتهادات الحديثة التي اقتضتها الحاجة: زرع أعضاء الإنسان في جسم إنسان آخر، فقد بين المجمع الفقهي الإسلامي أنّ أخذ عضو من جسم إنسان حي، وزرعه في جسم إنسان آخر محتاج إليه لإنقاذ حياته أو استعادة وظيفة من وظائف أعضاء الجسم الأساسية عمل جائز لا يتنافى مع الكرامة الإنسانية إذا توافرت فيه الشروط التي حددها العلماء.
كمال التشريع
التشريع الإسلامي أشمل التشريعات في حفظ حقوق الإنسان، ولكمال التشريع وجوه كثيرة، منها:
1-أخلاقيته
فهو تشريع أخلاقي، يعنى بالآداب ومكارم الأخلاق في كافة مجالات الحياة، قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، وقال رسول الله ﷺ: "بُعثتُ لأتممَ صالحَ الأخلاق".
ومن الصور التي يبرز فيها الجانب الأخلاقي في التشريع الإسلامي، أنه:
أ-حرّم كلّ عمل لا أخلاقي، من شأنه أن يضر بالفرد أو المجتمع، ولذا فإنه يعاقب على الزنى والغش والنفاق في كل الأحوال والصور بوصفه جريمة تمس الأخلاق، ويحرم الكذب مهما ضعف ضرره، فعن عبد الله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: "أتانا رسول الله ﷺ في بيتنا وأنا صبي، قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدَالله تعالَ أُعطِكَ، فقال رسول الله ﷺ: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: أردتُ أن أعطيه تمرًا، فقال: أما لو لم تفعلي كُتِبَتْ عليك كذْبةٌ".
ب-اعتنى بتقويم السلوك الفردي، حتى في أيسر الأمور، فعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: "كنت غلامًا في حجر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تطيش في الصفحة، فقال لي رسول الله ﷺ: يا غلامُ سمّ الله، وكل بيمينك وكل مما يليكَ، فما زالت تلكَ طعمتي بعدُ".
ج- نظّم سلوك الإنسان حتى مع غير بني البشر، بحيث شمل البيئة المحيطة به بكلّ مكوناتها، ومن ذلك دعوته إلى الرفق بالحيوان، فقال رسول الله ﷺ محذرًا: "عُذّبَتِ امرأة في هِرةٍ سجنتها حتى ماتت، فَدَخَلَتْ فيها النارَ، لا هي أطعمتْها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاشِ الأرضِ".
2-واقعيته
من كمال التشريع الإسلامي أنه تشريع واقعي واجه مشكلات الحياة على صعيد الفرد والأسرة والمجتمع، وشرع للناس من الأحكام ما فيه علاج لواقعهم، من غير أن يكون في تطبيقهم هذه الأحكام أي مشقة أو حرج عليهم، ومن أمثلة ذلك:
أ-مراعاة فطرة الإنسان: فالتشريع الإسلامي تشريع واقعي في ما شرعه من الأحكام، فقد راعى ما فُطر عليه الإنسان من الشهوات والغرائز، فاعتنى بها ونظّمها، فقد " جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي".
ب-مراعاة واقع الحياة وطبائع الناس: فقد أمر بحسن المعاشرة بين الرجل والمرأة، وبناء الأسرة على المودة والتراحم والتحابّ، وفي الوقت نفسه راعى حالات قد لا يصلح معها استمرار العلاقة الزوجية، فأباح الطلاق بين الزوجين بشروط ومراحل محددة، قال تعالى: "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا"، وقال عز وجلَّ: "وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا".
3- التكامل وعدم التعارض
من كمال التشريع الإسلامي أن المتأمل في أحكامه يجدها تشكل في مجموعها وحدة واحدة، فلا يوجد فيها تعارض بين الأنظمة والمبادئ المختلفة، كما في بعض الأنظمة الوضعية التي تفسد الأخلاق لإصلاح الاقتصاد، وتهدر حقوق الجماعة لتحقق مصالح الأفراد، قال تعالى: "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا".
4-يُسْرُ أحكامه
من كمال التشريع الإسلامي سماحته ويسر أحكامه، قال تعالى: "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ". فلا مشقة فيه ولا حرج قال تعالى: "مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ"، وقال عزَّ وجلَّ: "يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"، فليس في التشريع الإسلامي تشريع تشدّد، وإنما تشريع رحمة ويسر وسعة للعالمين، قال تعالى في وصف نبيه محمد ﷺ وشريعته: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ"، كما دعا إلى التبشير وعدم التنفير، وجعلها صفة عامة في الشريعة الإسلامية، قال ﷺ لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: "بشّرا ولا تنفّرا، ويسّرا ولا تعسّرا...".
وراعى التشريع الإسلامي أيضًا الظروف التي قد تطرأ على الإنسان؛ كالمرض والسفر والبرد والمطر والإكراه والخطأ والنسيان ونحو ذلك، فشرع أنواعًا من التخفيف:
• أباح الإفطار في شهر رمضان لمن لا يقدر عليه.
• أباح قصر الصلاة وجمعها للمسافر، وغيرها كثير من الرخص.
العالمية
أي أنها ليست خاصة بأمة بعينها، فالرسل السابقون أُرسل كل منهم إلى قومه، وكانت شرائعهم تراعي خصوصيات من أُرسلوا لهم، أما الشريعة الإسلامية فقد جاءت للناس كافة، أي لكل زمان ومكان بدءًا من محمد ﷺ إلى يوم القيامة، وعليه لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنها خاصة به أو إنها ليست له، قال الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ".
التوازن
فهي توازن بين:
• حاجات الجسد وحاجات الروح.
• وبين الحقوق والواجبات.
• بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة ما أمكن، فإذا استحكم التعارض قدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
وهذا التوازن موجود في كل باب من أبواب التشريع، ومثال ذلك أن الإسلام أمر بالتوازن والاعتدال في أداء العبادات، فقد نهى النبي ﷺ عن صيام الدهر ووجه الإنسان إلى ضرورة العمل بدنياه كما يعمل لآخرته.